بقلم عبدالله كمال على الفايس بوك 14 جوليي 2023
عاد مغنّي الراب لطفي دوبل كانون إلى الساحة الفنيّة بأغنية جديدة حملت عنوان « رابيت » بعد انقطاع دام حوالي خمس سنوات، شهدت تحوّلاً من الغناء والراب إلى التقديم التلفزيوني في حصّة على قناة المغاربية المعارضة، المتواجد مقرّها في أوروبا.
تصلُح أغنية لُطفي الأخيرة مدخلاً للتأريخ لمسيرة لطفي دوبل كانون الطويلة والمركّبة، والتي واكبت العديد من الأجيال العمرية، بالإضافة إلى مواكبتها للعديد من المحطات
والمنعرجات في المسار السياسي للجزائر والمنطقة.
مسيرة فنيّة زاخرة لمُبدع جزائري تشكّل وعيه في مرحلة حسّاسة من تاريخ البلاد والمنطقة، فقد بدأ مسيرته رفقة « وهّاب » خلال العشرية السوداء من تاريخ الجزائر ثم الانتفاضة الثانية مطلع سنة 2000، إلى غزو العراق، وسنوات بوتفليقة الطويلة إلى الربيع العربي وانتهاءًا بالحراك الشعبي 2019؛ وقد انعكست هذه التقلّبات السياسية والاجتماعية على مسيرة لطفي دوبل كانون ووجدت لها مكانًا بين كلمات أغانيه.
لذلك زخرت أغانيه بالمعاني الداعمة للقضية الفلسطينية تارة والمدافعة عن الإسلام تارة أخرى والرافضة للتدخلات الأمريكية والاستعمارية في المنطقة، بالإضافة إلى عشرات الأغاني المناهضة للفساد والاستبداد والمندّدة بالنظام السياسي والتزوير الانتخابي، وليس من المبالغة القول بأن كلماته الساخرة والرافضة كانت تصل الأذهان أكثر من أية خطبة سياسية أو مقال صحافي ناقد، فقد تلقّف الشارع مصطلحات وعبارات من أغاني لطفي، وأصبحت أقوالاً متداولة مثل » بلاد ميكي » أو » فاقوا الفقاقير » وغيرها الكثير.
تبدو أغاني لطفي أقرب إلى مقالات الرأي أو مدوّنة بعنوان « هموم شاب عربي »، وتتنوّع مواضيع الأغاني بتنوّع اهتمامات لطفي وميولاته، إذ يمكن القول إنّه استطاع فكّ شيفرة تمكّنه من تحويل أي موضوع يخطر على البال إلى أغنية راب مسجوعة بأسلوب السهل الممتنع، توزّعت بين السياسة والاجتماع والوعظ والسخرية وتقريب العلوم إلى العامة وتسليط الضوء على القضايا الاجتماعية. من بين هذه التنويعات، عالج لطفي مواضيع علمية حاول من خلالها تقريب مفاهيم مثل نشأة الكون وعُمر كوكب الأرض وبداية الحياة وحتى مفاهيم أساسية في الفيزياء النووية في أغاني مثل « Lotfi philosophie » و » سيونص في الراس « ، مُستفيدًا من تكوينه الأكاديمي مهندسًا في الجيولوجيا.
كما اتّخذت بعض أغاني طابع الوعظ الديني والأخلاقي النابع من ثقافة لطفي الإسلامية المحافظة في أغاني مثل « أنوصيك » التي يقول فيها:
انوصيك اسمع كلامي راك تسحقو، انوصيك تبع وش نقول وحاول ديما طبقو،
نوصيك خاطر كاين بزاف لي يتغدرو، نوصيك كيما سيدنا لقمان وصّى ولدو
وتكرّر هذا النمط الوعظي في العديد من أغاني لُطفي، ربما من منطلق الشعور بالمسؤولية اتجاه الشباب والمراهقين الذين اعتبروه قدوة لهم، فرأى أن من واجبه النصح والتوجيه بالابتعاد عن المخدرات وعالم اللصوصية، وبالتمسّك بالدين والاهتمام بالدراسة والتفوّق وطاعة الوالدين وغيرها من القيم الأخلاقية، كما حاول نقل صوت المهمّشين والمظلومين وقصصهم من الجزائر العميقة، مستلهمًا من الرسائل التي كانت تصله من كل أقطار الجزائر، ففي أغنية « في مكان ما/ quelque part » يحكي عن الفتاة الريفية المتفوّقة في دراستها والتي دُفنت أحلامها بأن تصبح طبيبة بعد أن منعها أبوها من إكمال دراستها الجامعية، وعن الشاب الفقير الذي رفض والد حبيبته تزويجه أيّاها بحجّة فقره، وعن الأبناء الذين كبروا في محيط عائلي مليء بالعنف والخمر والمخدّرات، وغيرها من القصص الاجتماعية الأليمة التي حاول لطفي نقلها عبر كلماته وإيقاعات فنّ الراب.
وقد رأى البعض هذه الرسائل متعارضة مع انتمائه للوسط الفني والغنائي وربطوه بالحكم الشرعي للغناء، لكن لطفي دافع عن هذا المسار الوعظي وبقي متمسّكًا به ليس في الأغاني فقط، بل أيضًا في تقديم بعض الحصص التلفزيونية ذات الطابع الدعوي. يبدو الاعتراض على الاتجاه الوعظي في أغاني لطفي متحاملاً وغير موضوعي، خصوصًا بالنظر إلى أن الرجل لم ينقلب على مبادئه وعلى القيم التي كان يدعو إليها فجأة، ولم يدّعي يومًا الطهرانية أو الملائكية، بل نَقَل الأفكار والآراء التي آمن بها وعبّر عنها على شكل أغاني راب، كما أن رسالته الفنية بقيت إلى حدّ كبير متجانسة ومتّسقة طوال أكثر من عقدين.
مع مجيء الربيع العربي واندلاع موجات الثورات في تونس ومصر وليبيا سوريا واليمن؛ كان لطفي جزءًا من تلك الحالة الشبابية التي تأثرت بذلك الاتجاه، خصوصًا وأنّه ابن ولاية عنّابة القريبة من تونس، كما أن لِـ لُطفي جماهيرية كبيرة في الجار الشرقي (والغربي أيضًا بالمناسبة) ولذلك عرف ألبوم (katastrophe) روحًا ثورية ورسائل احتجاجية وتنديدًا بالفساد والظلم والاستبداد السياسي؛ رغم أن هذه الثيمة كانت دائمًا موجودة في أغانيه منذ التسعينات في عناوين مثل « روح قول للحكومة » و »كلش ماشي » و »يا الوزير » و »رسالة »، ثم لاحقًا الاعتراض على مشروع الغاز الصخري والعهدة الرابعة وغيرها العشرات من الأغاني التي تندرج ضمن فكرة الاعتراض السياسي بكلمات بالغة الوضوح والمباشَرة.
وكأيّ فنّان، لم تخلُ مسيرة لطفي دوبل كانون من التقلّبات في المواقف قد يكون مردّها محاولة الموازنة بين الحفاظ على المبادئ وطهرانية الرسالة، وبين الحاجة إلى إيصال هذه الرسالة إلى الجمهور الواسع وعدم دفنها أو إبقائها في استوديو مغمور في عنّابة، وبالتالي الحاجة إلى اختراق العاصمة والتعامل المحتوم مع النظام السياسي وجهازه المكلّف بضبط المواهب الفنيّة والثقافي – وزارة الثقافة – خصوصًا في عهد الوزيرة السابقة خليدة تومي؛ وهو ما جعل لطفي محلّ انتقاد من شريحة ليست بالهيّنة من محبّيه الشباب الذين رؤوا فيه الصوت المعبّر عن همومهم وأفكارهم وتطلّعاتهم، وأزعجهم أن يرتبط لطفي بأيّة رموز سياسية وسلطوية لطالما هجاهم في أغانيه.
كما أن من المثير التطرّق إلى تطوّر العلاقة بين لطفي وفصيل من الإسلاميين، خصوصًا الشيخ علي بلحاج، أحد أبرز رموز الجبهة الإسلامية للانقاذ، إذ خصص لطفي في ألبوم (كوشمار / الكابوس) عدّة أغانٍ لانتقاد ظاهرة ما يُسمى الإرهاب الاسلامي والتنظيمات الإسلامية المسلّحة وضمّن الأغنية مقاطع من خطب علي بلحاج؛ تطوّرت هذه العلاقة ليضمّن في أغانيه اللاحقة مقاطع يمتدحه فيها علي بلحاج على دفاعه عن الإسلام أمام استهزاء الوزير الأول السابق عبد المالك سلال، ضمّنها لطفي في أغنية « ديما عقابهم » ثم أعاد التذكير بها في أغنيته الأخيرة RAP IT.
« ولا واحد ناض وتكلم، سلال قال بلي ربي عندو ليجومال، والدعاة سكتوا، ولكن ربي كي الدُعاة سكتوا ربي قيضلوا حتى واحد فنان يدافع، ربي سبحانو كي يحب يدافع عن دينوا. »
لا شكّ أن جزءًا من هذا الشباب كان يحفظ مقاطع وأغانٍ كاملة للطفي دوبل كانون خلال سنوات الطفولة والمراهقة، يرّددها في سهرات الصيف أو يدوّنها في الكرّاسات، ومع الزمن تغيّرت الكثير من السياقات السياسية والاجتماعية، وتبدّلت أنماط تعاطي الموسيقى من « الوولكمان » إلى « mp3 » ثم اليوتيوب، ومن سنوات بوتفليقة العجاف إلى الربيع العربي ثم إلى الحراك الشعبي 2019، بقي لطفي دوبل كانون حاضرًا أحيانًا في الواجهة وأحيانًا في الخلفية؛ كما أن بعض هؤلاء المعجبين أجرى محاولات لتأليف مقاطع « الراب »، هذا الصنف الموسيقي الذي شهد ولادة ثانية منذ سنوات 2013 إلى اليوم وبروز نجوم شباب كثيرين أصبحت أغاني تحظى بملايين المشاهدات؛ لكن قليلاً ما أشار هذا الجيل إلى الدور الذي لعبه « لطفي » كعرّاب لموسيقى الراب والفضل الكبير لمدرسة الثنائي لطفي ووهاب وإدخاله إلى الجزائر والعالم العربي، باعتبارهما من أوائل من غنّوا الراب باللغة العربية منذ أواخر التسعينات، أي سنوات قليلة بعد مقتل « توباك » و »بيغي ».
علّق أحد الشباب بأنّ أغنية لطفي الأخيرة تعتبر « صرخة الديناصور الأخيرة قبل الموت » باللعب على وتر النوستالجيا، وأنّ لطفي لا يتسطيع مخاطبة الجيل الحالي باعتبار أن قطار الراب قد تجاوزه وأصبح من الماضي. لا شكّ أن هذا الكلام فيه شيء من الصحّة، لكن ذلك لا يمحو مسيرة فنيّة دامت أكثر من عقدين من الزمن، ساهم فيها لطفي في صنع وعي جيل كامل من الشباب والمراهقين هم اليوم في أواخر العشرينات والثلاثينات من عمرهم، ملأ عليهم أوقاتهم ووجدانهم بقصص ومواضيع ومفاهيم متنوّعة في قالب موسيقي خفيف بعيدًا عن جفاف الكتب والمراجع الضخمة، وقبل انتشار قوقل وفيسبوك.
تثير هذه الأغنية الكثير من النوستالجيا لأبناء أواخر الثمانينات ومطلع التسعينات، وتذكّر بتفاصيل زمن مضى أو أشخاص كنّا نتبادل معهم أغاني لطفي ونناقشها ونعترض عليها وننتقدها أو نمتدحها معهم؛ لكنها أيضًا تثير الكثير من الأسى حول مصير هذا الفنان الذي يجد نفسه بعد كل هذا المسار، مغتربًا خارج البلاد غير قادر على دفن والده الذي توفي سنة 2015، في بلد يصرّ على قبر المواهب ودفعهم دفعًا نحو الهجرة والاغتراب.