novembre 20, 2022
22 mins read

المبلِغ عن الفساد مصيره التعذيب والسجن، والمبلَغ عنه مصيره الحماية والترقية

المقال الأسبوعي: د. رشيد زياني الشريف – حركة رشاد

المبلِغ عن الفساد مصيره التعذيب والسجن، والمبلَغ عنه مصيره الحماية والترقية

مواطن (س) يتوّجه إلى قسم من أقسام الشرطة، يسجّل شكوى ضدّ شخص اعتدى عليه، أو هتك عرض أحد أفراد أسرته أو اختلس مالًا أو ارتكب أي جريمة من الجرائم، يتقدّم هذا المواطن، بشكواه معززة بالمعلومات التي تسندها، بالتفاصيل والتواريخ وكلّ ما يطلبه منه المحقّق. مثل هذا السلوك حقٌ، بل واجبٌ على كلّ مواطن أداؤه. الإجراء العادي في هذه الحالة يفترض من المصالح المختصّة فتح تحقيق في الوقائع والتدقيق في مدى صحتها، فإن ثبتت، يتمّ استدعاء المعني وإحالته على العدالة لتأخذ مجراها، وإن كانت الشكوى غير مؤسسة، تُرفض ويعاقب صاحبها إن ثبت أنه مفتري زوّر الحادثة لأمر يخصّه. لكن ماذا نلاحظه عندنا، سواءً في مخافر الشرطة والدرك وقاعات العدالة، عندما يتقدّم أحدٌ بالتبليغ عن عمليات فساد وجرائم؟ يحدث أمرٌ غريب، فلا يتوّقف الأمر عند عدم متابعة المبلغ عنه، وبدل التحقيق في شكوى المبلغين، تقوم هذه الأجهزة بملاحقة المبلغ عن عمليات الفساد والجرائم وتجريمه وسجنه في غالب الأحيان.

هل القضية تخصّ حالات معدودة ومعزولة؟ كلّا، فالوقائع اليومية تُبيّن لنا أنّ هذا الإجراء أصبح القاعدة المعمول بها، مع توجيهٍ تلقائي، إلى كاشفي جرائم السلطة، والمبلغين عنها، لتهم نمطية، تشمل نشر الأكاذيب والتشهير والقذف والمسّ بالأعراض وتهديد استقرار وأمن البلد، دون حتى النظر فيها والتحقيق بشأنها. طبعًا لا أحد يعترض على معاقبة كلّ من يروّج للكذب أو ينشر معلومات مغرضة ويمسّ بأعراض الناس، لكن، أليس من الواجب، قبل اتهام هؤلاء والحكم عليهم، إثبات التهمة ضدهم، مثلما هو مطلوب من المبلغين عن الفساد إثبات تهمهم بالأدلة؟ ألا يفترض في الجهات المختصة، إجراء تحقيق مستقلّ ونزيه يبحث عن الحقيقة، لا عن الإدانة أوّلًا وأخيرُا، مع ضرورة منح كِلا الطرفين الفرصة لتقديم الدليل على ما يقدّمه من تهم، ونفي الطرف المبلغ عنه؟ هل هذه العناصر والأركان في التحقيق والمحاكمة متوفّرة، حتى يُحكم على المبلغين دون حتى امتثال المبلغ عنهم والتحقيق معهم في التهم الموجهة إليهم؟ من حقّنا أن نسأل لماذا في كلّ مرة تنشر أخبار عن أعمال فساد والكسب غير المشروع، تتعلّق بكبار المسؤولين في السلطة، أو متهمين باقتراف جرائم، من قتل وخطف وتعذيب، يتمّ تلقائيًا دفن القضية واتهام بدل ذلك من يكشف عن هذه الجرائم وملاحقته قضائيا؟ كيف يمكن تفسير ذلك السكوت المطبق على عشرات التهم التي قدمها عسكريون سابقون، عن جرائم اقترفها ضباط سامون، منهم من لا يزال في السلطة، دون أن يُسأل المعنيون، ودون أن يُطلب من المبلغين، التقدّم بشكوى أمام المحاكم والدليل على ما يدلون به؟

ما المانع أو العائق، في إحضار المبلِغ والمبلَغ عنه في جلسات علنية، يقدّم كل منهما الأدلة على ما يزعم، لتفصل العدالة في الأمر، ويأخذ كلٌ جزاءه، وبذلك تتحقق العدالة، فلا يجرؤ أحد بعد ذلك على القذف والتبليغ دون دليل ولا يجرؤ أحد على ارتكاب الجريمة مع شعوره بالأمان والإفلات من العقاب؟ سؤال ساذج، قد يقول البعض، لكن نطرحه مع ذلك، أمام الواقع المفجع المتكرّر.

ثم لماذا يجرون تحقيقات انتقائية وانتقامية، مع المبلغين عن الفساد، الذين يُراد كتم أصواتهم وتلطيخ سمعتهم، وجعلهم عبرة وردعًا لسواهم ولكلّ من تسوّل له نفسه كشف المستور، وتنظيم “محاكمات متلفزة”، يشاهدها ملايين الناس، داخل الوطن، وخارجه؟ هل المحاكمات التلفزيونية “حلال” فقط بحقّ البعض، وحرام على غيرهم؟ وهل يجهل المعنيون أنّ مثل هذه “المحاكمات” تنتهك كافة حقوق المتّهمين وتحرمهم من جميع الضمانات الواجب توفرها في المحاكمات القانونية؟ ما يلاحظه الجميع أن هذه المحاكمات المتلفزة تقتصر على مواطنين بسطاء، ولا تشمل “كبار الحيتان”، المعصومين من المتابعة والمحاكمة، رغم أن تهمهم أكثر خطورة، ويمكن التحقق منها بناء على شهادات أطراف ضالعة أو على علم بها وشاهدة عليها.

أما بالنسبة للمبلغين عن الفساد، أو الذين أدلوا بشهادات حول أحداث وشخصيات في السلطة، المتواجدون خارج الوطن، فيُلاحظ انتقائية من نوع آخر. بينما طالب هذا النظام برأس بونويرة ومحمد عبد الله ومحمد بن حليمة، وغيرهم، واستعادهم من دول أجنبية، تركيا وإسبانيا، لم يجرؤ بالمقابل على مطالبة دول أوروبية أخرى بتسليهم آخرين، على غرار الجنرالين بلقصير وشنتوف على سبيل المثال فحسب، رغم رتبهم السامية، وحساسية المناصب التي تولّوها في أجهزة الدولة وخطورة الأسرار التي يمتلكونها. لماذا طالبوا بالبعض وأداروا أعينهم عن الآخرين؟

نلاحظ أيضًا، حتى بالنسبة للذين تسلّموهم (من إسبانيا وتركيا)، منهم من تمّ تقديمه للمحاكمة التلفزيونية كمحمد بن حليمة، وهناك من لم يقدّم إلى المحاكمة التلفزيونية، كبونويرة، لأنّ الأول أرادوا منه أن يتّهم أفرادًا بعينهم ويورّطهم في تهم ملفّقة من قِبل أجهزة المخابرات، أي دحدحته مكرهًا، وجعل منه مثلًا لغيره، أما بونويرة، فقد جيء به من تركيا، لمنعه من مواصلة كشف ذلك الكم الهائل من المعلومات التي تخصّ قادةً لا زالوا في السلطة، في حين كان يُفترض أن يُحقّق فيما أدلى به، بالنظر إلى خطورة إفادته، لتُحدّد المسؤوليات ويُعاقب كلّ من ثبتت فيه هذه التهم، وهو ما لم يحدث، بل تمّ منع وتجريم نشر إفادة بونويرة واعتبار كلّ من يفعل ذلك، أنه يرتكب عملًا إرهابيًا يُعاقب عليه.

حادثة بونويرة، تذكّرنا بوقائع مماثلة، جرت قبل سنوات، ولم تُطالب السلطة بتسليم أصحابها، مثل شهادة العقيد سمراوي التي ألّف بخصوصها كتابًا مفزعًا، تحت عنوان “وقائع سنوات الدم”، وأحجم النظام الجزائري، بصفته الطرف الوصي، عن مقاضاة عقيد المخابرات سابقًا، محمد سمراوي بتُهم التشهير والقذف.

لماذا لم يفعلوا إذن؟ يقول المثل الشعبي “لي في كرشو التبن يخاف من النار”، لأنهم يعلمون علم اليقين، أنّ الشهادات صحيحة وموثّقة، ولا يستطيعون لا نفيها ولا كتمها، لأنّ صاحبها، يوجد خارج نطاق ونفوذ العصابة وأجهزتها، لذا فضّلوا بدل ذلك، اللجوء إلى “وكلاء” لتلطيخ سمعة الشاهد، للنيل من مصداقيته، والتقليل من شأن شهادته، فوظّفوا مختلف وسائل الدولة لمحاصرة الكتب هذه (وقائع سنين الدم، الحرب القذرة) من منعٍ لتداولها وتوزيعها وبيعها، وتنزيلها عبر الانترنت، ومعاقبةٍ لكلّ من يُلقى بحوزته نسخة منها أو استند إليها في مقالات وحوارات أو نشرها كاملة أو جزءًا منها، أي بالمختصر، فضّلوا مقصّ الرقابة وسيف القضاء المحلّي الخاضع لأوامرهم، لكتم الأنفاس وحرمان الشعب الجزائري من الاطلاع على شهادات تدحض الرواية الرسمية، خاصة وأنهم يعلمون أنّ محاكمة أصحاب الشهادات (في محاكم خارج السيطرة)، ستكون مهرجانات من شأنها أن تسلّط الأضواء على كبار المسؤولين في السلطة وعلى سجلّهم القاتم، وتكشف بذلك جرائمهم أمام العالم بأدلة لن يستطيعوا نفيها، ومن ثمّ ستنسف عشرات السنين من التضليل والتدليس وكتم الأنفاس، وتفضح زيف روايتهم التي روّج لها من قبلُ مرتزقتهم، في الداخل والخارج؛ فهؤلاء رغم كل ما يُقال عنهم، ليسوا من الحماقة ولا هم بالانتحاريين، بحيث يُعرّضون أنفسهم طواعية للمشنقة القضائية ويساهمون بأنفسهم في رفع اللثام عمّا تستّروا عليه طيلة أكثر من 30 سنة.

هذه الحقيقية، كان قد أوضحها سمراوي نفسه في مقدّمة كتابه متحديًا، قال فيها ” بما أنّ منتقدي في السلطة بإمكانهم فبركة الأدلة ضدي وجلب الشهود، اخترتُ أنا ذِكر فقط أسماء المتورّطين في الأحداث الدرامية التي أشير إليها في شهادتي، مع علمي اليقين أنهم إذا حدّثتهم أنفسهم بالمغامرة في متابعتي قضائيًا بتهمة التشهير والقذف، أمام المحاكم الفرنسية، سوف يكون بوسعي مواجهتهم بأدلّة سيعجز محاموهم دحضها”.

ختامًا، عدم مغامرتهم في المقاضاة (خارج حصونهم المنيعة) واضحٌ وضوح المصير الوخيم الذي ينتظرهم في هذه الحالة. من المؤكد أنهم لم ولن يرفعوا قضايا تشهير وقذف بحقّ سمراوي، أو أقرانه، لأنهم يُدركون، أنّ محاكمات من هذا القبيل هي محاكمة لهم وإدانة لهم ونهاية لهم، أما تعسّفهم ضد “المُبلغين”، في إطار حربهم ضد الإرهاب، فسيستمر عن طريق بثّ توابع المسلسل الدحدوحي، يكون أبطاله دائمًا وكالعادة، المسحوقين، الذين يُراد ضرب المثل بهم، بيد من… حديد.

د. رشيد زياني الشريف | عضو المجلس الوطني لحركة رشاد

Laisser un commentaire

Your email address will not be published.

Article précédent

تحقيق, النفوذ الإماراتي في فرنسا، عن استراتيجية لوبي عنيد

Article suivant

شعب كان يريد أن يفرح في مونديال قطر

Aller àTop