الجزائر الجديدة 92
جزائر احترام البشر والشجر والحجر
تسعى الجزائر الجديدة إلى بناء دولة المواطنين والمواطنات، الدولة التي يوكل تسييرها إلى رجال الدولة الذين لا يستغلون أجهزتها من أجل الاستحواذ على السلطة وتقزيم حجمها، الدولة التي لا يمكن أن تتحول إلى طرف في الصراع الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والسياسي الذي يحدث في كل مجتمعات المعمورة، بل تقوم بفرض آليات ضبط وتعديل وتنظيم هذا الصراع والتنافس على المصالح.. كل المصالح.
دولة المواطنين والمواطنات هي دولة يقوم فيها المواطن والمواطنة بآداء الواجبات التي تمكنه من المطالبة بالحقوق، وفلسفة الواجب والحق هي معيار أساسي في الارتباط بالأرض واحترام المواطنين والمواطنات لبعضهم البعض، وللفضاء الذي يعيشون فيه.
فلسفة الدولة وثقافة الدولة، لا يمكن أن يبنيها إلا المجتمع المفتوح، المجتمع الذي يفكر ويعمل ويتنافس، ويمارس كل حقوقه وواجباته، وهو المجتمع الذي يحترم البشر كل البشر ويحترم بيئته بشجرها وحجرها، في البر والبحر والجو.
المجتمع المفتوح هو الذي ينتج نخبا تؤسس للاحترام وترفض المساس بحرية أي فرد منه، وهو الطريق الذي لم تسلكه الجزائر منذ الانقلاب على الحكومة المؤقتة سنة 62، حيث احتكر العسكريون السلطة والثروة والثورة، بل وقاموا بممارسة الاقصاء والعنف والقتل والتهجير والاعتقال ضد كل من انتقد مسار الشخص الواحد والحزب الواحد والفكر الواحد، وهو المسار الذي أنتج مفهوم المواطن الصالح، إلى الحديث عن المواطن المخلص كما جاء في خطاب قائد الأركان أول أمس!
المواطن المخلص حسب الخطاب، هو الذي يقبل » الحوار » بنقطة واحدة في جدول الأعمال وهو الذهاب في أقرب الآجال نحو الانتخابات الرئاسية، وهو الذي يصطف في خندقه في مواجهة باقي العصب التي تتقاتل على السلطة وعلى اختراق ومصادرة ثورة الشعب، والمرعب في كل ما قاله قائد الأركان هو اتهامه لمنتقدي هذا المسار بأنهم من العصابة وأذنابها، والمقصود بها حسب القراءة الأولية للخطاب هم شبكات توفيق ونزار وعبد العزيز بوتفليقة، وهو اتهام يحمل الكثير من المغالطات، لأن الملايين التي تخرج للشوارع صفقت لاعتقال كل هؤلاء والكثير منهم ينتظر حتى متابعة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، والشعب بثورته السلمية ومنذ الأسابيع الأولى يطالب بتغيير كل منظومة الحكم، ودفن سلطة العصب والعصبيات والشبكات التي أوصلت الجزائر إلى مأزق تاريخي.
إن أخطر ما جاء في خطاب القايد صالح، أمس، ولم نسمع عنه لا تعليق من « المثقفين » ولا من « الجامعيين » ولا من « كتاب أو كتبة الافتتاحيات »، ولا من « السياسيين » أو غيرهم، هذه الجملة الرهيبة « الجزائر ليست بحاجة إلى مثل هؤلاء البشر »، وفي مضمون النص استهداف لكل من لا يصفق لمسار لجنة يونس والانتخابات في أقرب الآجال!
هذه الجملة ذكرتني بكلام خالد نزار عقب أحداث « قمار » في تسعينيات القرن الماضي، الذي كان يتحدث عن مناضلي الإنقاذ بالقول: « سنقضي عليهم »، وذكرتني بكلام الشخص ذاته،الذي تجرأ على القول « أنا مستعد للقضاء على ثلاثة ملايين شخص من أجل إنقاذ الجمهورية »، والملايين المقصودة هو عدد الذين انتخبوا على جبهة الانقاذ، وقد لاقى تصريح نزار آنذاك ترحيبا وتصفيقا وتهليلا ممن لا يحترمون البشر الذين لا يفكرون كما يفكرون هم، وهو حال « مثقفي الكراهية » من الحداثيين ومن « الوطنيين المخلصين » ومن « الإسلاميين الذين لفضهم صندوق الانتخاب واحتضنتهم مخابر النظام ».
كلام قايد صالح هو انحراف اتصالي وأخلاقي وسياسي كبير، لأنه يعطي صورة سيئة عن شخصه وعن الجيش الذي يتحدث باسمه.. صورة تحمل إرادة الاقصاء والإلغاء، وهي من ثقافة خالد نزار الذي مارس الإبادة الانتخابية ضد الشعب، فهل يعتقد من كتب هذا الخطاب أنه بالإمكان اليوم في الوضع الدولي الحالي تنظيم مرور بالقوة وتنظيم إبادة أخرى دون المساس بوحدة الدولة والأمة!؟ ألا يعرف هؤلاء أن مثل هذه الخطابات تضع الدولة في خطر؟ ألا يعلم هؤلاء وأولئك أن الشعب يعطي كمجتمع وكأمة دروسا في ثقافة الدولة منذ 22 فيفري، وهذه الثقافة تقتضي تحرير الأمة والدولة من اقتتال العصب الذي رهن الدولة والأمة ومصالحها الاستراتيجية، وبأن الأمة الجزائرية اختارت طريق التغيير الشامل لانقاذ الدولة ودفن منظومة حكم قتلت الانسان ودمرته نفسيا واجتماعيا وقتلت وجوده السياسي وحتى الوجودي.
الأمة الجزائرية اليوم، تبحث عن إحداث قطيعة مع نظام أنتج أشخاص يعتقدون أنهم هم المؤسسات وهم الدولة ويحق لهم الحديث باسم الأمة وبتصنيف الجزائريين إلى مواطنين صالحين وغير صالحين، ومخلصين وغير مخلصين، من أجل بناء دولة تحترم البشر والشجر والحجر.
الجزائر في 29 أوت 2019
تصوير وتحرير رضوان بوجمعة