إسمه جمال بن سماعين، ولد عام 1987، يسكن في مليانة، أملاكه قليلة لكنها ثمينة، لوحات فنية وأبيات شعرية، ڤيتارة، ريشة وفكرة.. عنوانها « الحياة »، الحياة في الثقافة والفن والمواطنة.
جمال ككل شباب جيله رأى النور في جزائر الأزمة، مع المجتمع المأزوم والاقتصاد المدمر والسياسة العرجاء، عاش طفولة صعبة كباقي أطفال جيله، بدأ المدرسة في 1993، العام الذي كان فيه الرصاص هو لغة ممارسة « البولتيك ».. فقد كانت أخبار الموت والقتل هي الأخبار الوحيدة التي تسيطر على الجزائر بأحيائها وقراها،و مدنها وأريافها.. الجزائر التي تقدس الموت، وتبرر القتل باسم الدفاع عن الإسلام تارة او باسم الدفاع عن الوطنية والجمهورية تارة أخرى…
جمال لم تستوعبه منظومة التدريس وتوقف في التاسعة متوسط عام 2002، وكان من حظه أن زوج خالته الفنان المعروف في مليانة الراحل « جمال توات »، تعلم جمال منه مدرسة الحياة والفن.. الحياة التي تكرهها منظومة متشبعة بثقافة إبليس « أنا خير منه ».. منظومة مبنية على الاقصاء والكراهية.. منظومة تغرس الكراهية وتعيش في الكراهية وتستمر بالكراهية.
مليانة سيد أحمد أحمد بن يوسف.. من تمقرة ببجاية إلى زكري بتيزي وزو
جمال ابن مليانة، مليانة أقدم وأكبر المدن في تاريخ الجزائر، مليانة الشيخ سيد أحمد بن يوسف أحد أشهر وأعظم شيوخ الصوفية في القرن العاشر الهجري، مؤسس الطريقة الراشدية، وهو الذي عاش مدة معتبرة في تمقرة ببجاية بمعهد الشيخ العيدلي، وتعلم فيها علوم القرآن والسيرة والتصوف على يد الشيخ أحمد زروق.
الشيخ سيد احمد بن يوسف كان رحالة يتنقل بمختلف مناطق الجزائر منها منطقة القبائل، والكثير من الروايات التاريخية تقول إن له أحفاد في قرية تيزغوين بزكري التي دمرتها الحرائق الأخيرة.. الشيخ سيد أحمد بن يوسف يملك من الحكمة والسلطة الرمزية ما يمكنه من إصلاح ذات البين وحل الصراعات التي كانت تعرفها القرى بسبب المياه والميراث… وغيرها من المشاكل.
سمعة الشيخ بن يوسف كانت تشع من مليانة إلى أدرار والمغرب، ومن مليانة إلى بجاية، وهو أحد رموز الإسلام المطموسة في هذا البلد، بسبب الاستخدام المأدلج للإسلام في معارك سياسية هدفها الثروة والاستمرار في السلطة أو الاستحواذ عليها.
علاقة جمال بن سماعين بمدينته وتاريخها علاقة قوية، وهو يعرف منطقة القبائل من بوابة الدين والفن، لأن الكثير من العائلات المليانية العريقة لها علاقة بشيوخ الطريقة الرحمانية بصدوق بولاية بجاية، وهي تحج باستمرار إليها، كما أن الكثير من الأسر من زكري وأزفون لازالت تحج إلى ضريح الشيخ أحمد بن يوسف، كما كان يعرفها من جيرانه وأصدقاء والده ومن العائلات المليانية التي تربطها علاقات مصاهرة بالعائلات القبائلية التي هجرت مليانة بعد ثورة الشيخ الحداد، أو التي جاءت من منطقة واسيف والمتشكلة من التجار المتجولين بالأساس.
جمال ينبض حياة ويعيش في حياء، وهو كثير الحركة من مليانة إلى العاصمة، ومن مليانة إلى الشلف ووهران وبجاية وتيزي وزو وغيرها من المناطق… جمال شاب يحب الفن والشعر والطبيعة بتنوعها، أراد ممارسة مواطنته بعيدا عن هيمنة المجتمع على الفرد.
جمال كان يحرم نفسه من عدة أشياء عند الشعور بحاجة الآخرين إليها، فصديقه الفنان شمس الدين في حديثي له عصر اليوم، قال لي « جمال بن سماعين كان يخدم الآخرين وينسى نفسه »…
الصديق لطفي خواتمي من مليانة وهو طبيب أسنان يعرف الراحل، في شهادته عنه قال لي صباح اليوم « جيمي متشبع بالقيم الإنسانية، ويمكنه العيش بأي مكان في العالم، هو شاب لا يتوقف عن العمل »، لا يعرف اليأس طريقا إلى قلب جمال، فقد كان يحمل مشروع المواطنة، ولهذا كان في الحراك الشعبي منذ بدايته، ولذلك كان يأمل أن ينتهي الحراك الشعبي ببناء دولة المواطنين والمواطنات.
غرس الثقافة والفن لدفن الجهل والكراهية
« »فن من الصباح لليل » هذا كان آخر مشروع سعى جمال بن سماعين لتجسيده مع جمعية أصدقاء مليانة للثقافة والفن، مشروع كان الهدف منه غرس الثقافة والفن في الشارع، لأن جمال كان له يقين أن رمي الثقافة في الشارع سيحتضنها الشعب لمواجهة الجهل والكراهية، كما احتضن الشعب ثورة التحرير من الاستعمار وثورة رفض الفساد و الاستبداد.
آخر لوحة فنية أنجزها جمال كانت إعادة رسم آخر لوحة لفانغوخ قبل انتحاره، وهي لوحة « جذور »، التي كانت رسالة وداع الفنان العالمي، كما أن آخر قصيدة شعرية كتبها كانت عن الموت بعنوان « دار الاستقرار »، وكأن جمال أراد توديع الدنيا من بوابة الثقافة والفن بعيدا عن الوحشية التي قتل بها، وهي وحشية تختصر غياب الدولة والقانون، الدولة التي يعتبر حماية الأشخاص والممتلكات هي غاية وسر وجودها.
فهل يتحقق حلم جمال بن سماعين في بناء دولة المواطنين؟ وهل يمكن البناء دون فرض الحقيقة والعدالة؟ الحقيقة حول كل الجرائم التي عرفتها الجزائر، الحقيقة في الاغتيال الوحشي الذي عرفه جمال، اغتيال واجهه والده بحكمة العظماء والأنبياء.حكمة لا يفقهها تجار الهويات القاتلة.
جمال بن سماعين مات وهو يسعى لإخماد الحرائق في تيزي وزو وهو أصيل مليانة، لأن جمال يعشق جمال الجبال والطبيعة ولأن جمال يشعر أن الجزائر كل الجزائر هي بلده تماما مثلما يشعر بذلك كل الجزائريين والجزائريات الذين هبوا من كل مكان في الجزائر في حملة تضامن غير مسبوقة لمد يد المساعدة للمنكوبين جراء هذه الحرائق، وهي الرسالة التي تبين أن جمال رمز المواطنة المصادرة، المواطنة التي لا يمكن ان يبدأ مشروع تحقيقها دون تحرر الفرد من هيمنة ووصاية القبيلة والعشيرة والسلطة والمشيخة و العصبية وأية سلطة كانت، ولذلك على الجميع من لاربعاء ناث ايراثن إلى مليانة العمل اليد في اليد من أجل فرض الحقيقة والعدالة لروح جمال، لأن جمال الذي غدر سيبقى حيا، لأن جمال هو المستقبل، هو المشروع والمشروع هو تحقيق المواطنة المصادرة…
رضوان بوجمعة
الجزائر 13 أوت 2021