إلى من تضايقوا من « إدمان الرفض »: ليس ثمة حراك جيد (الأشهر الأولى) وحراك سيء (ظهر في الصيف)
كتب بواسطة :خالد حسن / رئيس التحرير صحيفة الأمة
ليس ثمة حراك جيد (الأشهر الأولى) وحراك سيء (ظهر في الصيف)، كما كتب أحد الصحفيين المخضرمين (من الأقلام المؤثرة) الناقمين على سياسة الرفض التي تبناها الحراك، حتى خُيل إلى الكاتب أنه أصبح يرى في كل مبادرة أو فكرة « لدعة ضلالة »ا؟؟ لم يقطع الحراك يد مُدَت إليه، ولا شكك في مسعى جاد نابع من إرادة سياسية، له عقل ناضج يميز به..ربما كانت مواقفه، في الآونة الأخيرة، مدفوعة بالشك والتحفظ من كل ما يأتي من السلطة، على الرغم من أنها كل ما أقدمت عليه وتخطط له إنما أرادت به إنقاذ حكمها، الذي شعرت أنه مُهدد من اندفاع الحركة الشعبية الرافضة..
لا أتوقف كثيرا عند من استقبلهم تبون، وما الذي كان ينبغي فعله، فلا وصاية ولا تجنَ، وهم أحرار في تقديراتهم، لكن ما لم يستوعبه هذا الصحفي الناقم أن عقل الحراك تصلب، وتجاوز بنضجه التراكمي سقف الساسة التقليديين، حتى المبادرين من داخله، على الأقل حتى الآن، يرفض صنيعهم، ليس لأنه « دكتاتوري »، كما يتهمه بعض الناقدين، ولكن لأنه أدرك بوعيه وتراكم الوعي والمظالم وثورات السابقين وإرثهم النضالي، أن تجربة المُجرَب دوران في حلقة مفرغة، وإهدار للفرصة التاريخية التي أُتيحت لحركة التغيير مع هذه الثورة السلمية الضاغطة، وقد أُشبع وأُتخم من وعود السلطة الكاذبة ودعايتها الفارغة، فالثقة غائبة تماما، والسلطة عمَقت الهواجس والشكوك.
وما لم يستوعبه كثيرون أيضا، من المثقفين، أن الحراك ليس على رأي واحد، ولا هو صوت واحد، ولا رؤية واحدة، ولا كتلة واحدة، ولا تفكير واحد، ولكنه قوة ضغط شعبية صلبة عصية على الكسر مقاومة لإرادة التفرد وسلطة القهر السياسي، هذا قلب الحراك ومنطقه وجوهره. ليت هذا الصحفي المتمرس يقترب أكثر من حقائق الميدان، والأصل في الصحفي المتمرس أن يكون على التصاق بالحقائق، ما أمكنه ذلك، ليرى بأم عيني رأسه مجموعات وأفكارا متضاربة داخل الحراك، وتصورات للحل ليس فيها تطابق ولا تماثل، ولكن، وهذا ما غاب عن الكاتب وأمثاله، ثمة طبقات كثيفة من الشك، وثمة شعور بمرارة كبيرة تجاه ما يعتبرونه « خيانة » النخبة وطبقة المثقفين (إجمالا)..لهذا تسلح بالرفض، ولكن لم ينغلق عليه، تحرزا من أن يُضحك على عقله وتتلاعب به مناورات السلطة الفعلية..
نعم، الحراك يعرف ما لا يريد أكثر مما يعرف ما يريد، تفصيلا، وهذه حقيقة معاينة، لكن حتى هذا الذي يريده أغلقت أبوابه السلطة بإحكام، ورفضت أي إعادة للنظر في السياسات والمسار المفروض، حتى الذي تُقبل عليه، بدعوى الاستجابة لمطالب الشعب، إنما صنعته على عينها وأخضعته لغرفة التحكم والسيطرة..
كما لا يخلو الحراك من مثاليات ولا سذاجة ولا سطحية، وهذا لا تكاد تخلو منه ثورة إصلاحية، لكن صنع بمجموعة قوة ضغط ودفع، حتى صار طرفا مؤثرا في موازين القوى ويُحسب له حساب، وقوته في تمنَعه ورفضه ويقظته ووعيه، إجمالا، ولهذا فشلت السلطة في اختراق عقله ومنطقه، والتلاعب بمطالبه..
يُدرك أكثر الثوار والمتظاهرين أن الحل في الأخير تفاوضي ومرحلي وليس بالضربة النهائية الحاسمة ولا بالقفزة العملاقة، لكن من أين يأتي الحل؟ من السلطة الفعلية، أو كما ذكر الصحفي المخضرم من الجيش..دلَنا على هذا الحل، عمليا، بما تتحمله طاقة الإمكان، فحتى الآن سلطة التحكم رافضة لأي مسار تفاوضي، ولأيَ مراجعة لسياسة الفرض والإلزام، رافضة لأي انفتاح جاد على الحراك ومطالبه، حقيقة لا ادعاء وتدليسا وخداعا وتضليلا، فما العمل؟
تطالب الحراك بالمرونة، لكن أين المبادرة الجادة؟ أين الإرادة السياسية، ولو في حدَ معين، للانتقال إلى الأرضية المشتركة التفاوضية؟ حتى الآن، للأسف، كل ما نراه من إملاءات ميكيافيلي، ليس فيه ما يدفع لكسر حاجز الرفض. ولا يحتاج الأمر حتى إلى مكيافيلي وكتابه « الأمير » لمعرفة حقيقة ما يجري سياسيَا: تمكين السلطة الفعلية، على تضاربها، من تمديد سيطرتها وهيمنتها على القرار، ولهذا لن تقبل برئيس قوي لأنه يهدد قبضتها وتحكمها، فأتوا بالضعيف المترهل ليكون خاضعا لإرادتهم…
فالحراك لم يكن رافضا للانتخابات الرئاسية لذاتها، وإنما أنكر فرض عملية سياسية انتخابية ينقذ بها النظام حكمه وسلطته، وفرض رئيس يخدمهم، من دون أي اعتبار للملايين الرافضة، فقضية الرفض حمَالة أوجه، وليست ضربة لازم، فليس الرفض لذاته وإنما لغيره..دُلَنا على الحل الممكن العملي المقدور عليه، لكن أرجو أن لا تتجاوز حقائق السلطة ومنطقها وسياساتها، حتى يكون لكلامك معنى وقيمة عملية.