تفاؤل كبير ساد بين الجزائريين، بمجرد انطلاق الحراك الشعبي الذي لم يكن ينتظره أحد، على الأقل بالقوة والزخم اللذين ظهر بهما في فبراير/شباط 2019. جعلهم ينسون من أين أتوا.. من صحراء سياسية، لم تكن تؤهل الجزائريين للخروج إلى حراك شعبي بهذا الشكل الشعبي والسلمي، هم الذين كانوا محسوبين على الشعوب العنيفة، التي لم تعرف يوما، كيف تحل مشاكلها بأقل الأضرار، كما فعلت شعوب أخرى، تعلق الأمر بحرب التحرير، أو المشاكل السياسية لفترة ما بعد الاستقلال، التي تأخرت حلولها وكانت مكلفة في الغالب.
رغم هذا التاريخ الذي لم يكن متسامحا مع الجزائريين، إلا انهم أبهروا العالم، كما أبهروا أنفسهم، وهم يخرجون في مسيرات شعبية سلمية لمدة أكثر من سنتين، للمطالبة بتغيير نظامهم السياسي، بعد أن تأكدوا أنه تحول إلى خطر عليهم وعلى بلدهم.
تغيير وجد أمامه تاريخ البلد بنقاط ضعفه المتعددة، بما فيها تلك المرتبطة بالشروخ الثقافية ـ اللغوية والجهوية، التي استغلها النظام السياسي لعقود، لتخويف الجزائريين من بعضهم بعضا، لم تسمح لهم بالتقدم إلى الأمام. شروخ طرحت بحدة مسألة النخبة التي تقود التغيير، وتتفاوض حوله، تعلق الأمر بنخب النظام الرسمية، أو تلك التي أفرزها – أو فشل في إفرازها الحراك الشعبي حتى الآنن والتي كان يمكن تصور أن تقود الحراك، تعقلنه وتمنحه معنى سياسيا. تنتج له ورقة طريق متفق عليها. كما بدأ يطالب به الكثير من القوى الشعبية هذه الأيام، بعد رفض للفكرة مدة طويلة، وصلت إلى حد تخوين كل من يبرز اسمه للسطح واتهامه بالتآمر على الحراك والعمل مع السلطة. مستويات كثيرة، يمكن أن نسوقها لفهم هذا العجز في فرز وإبراز نخبة سياسية، تسند الحراك، وتمنحه هذه المعاني السياسية التي يحتاجها، منها ما هو متعلق بالمستوى السوسيولوجي وحتى الجغرافي، في بلد قارة، كما يحلو للجزائريين هذه الأيام وصف بلدهم، من دون أن يصلوا إلى الاستنتاجات الواجب استنتاجها من هذه المعاينة لجغرافية البلد، لعل أولها أنهم أصغر من جغرافيتهم – كما تعكسه سكناتهم التي بنوها بعد الاستقلال – وانهم لا يعرفون بعضهم بعضا، بالقدر الكافي والمطلوب للتفاهمن وإنجاز التغيير السياسي المنشود. فشلت المدينة التي تعيش فيها أغلبييه الجزائريين، في توفير شروط الحد الأدنى منها. ضعف مؤسسات اللقاء والحوار، كالإعلام الذي ما زال مغلقا أمام الجزائريين، بكل أطيافهم السياسية، لم يساعد الجزائريين بكل تأكيد على التعارف على بعضهم بعضا واقتراح البدائل السياسية المطلوبة، فقد توفي آيت أحمد ومهري وبن بلة وغيرهم كثير، من دون أن يستمع لهم الجزائريون، إلا في حصة تلفزيونية أو اثنتين، تم تسجيلها في الغالب أثناء فترة الانفتاح السياسي والإعلامي في بداية تسعينيات القرن الماضي، أو في الخارج. عدم معرفة الآخر ليس غريبا بين أبناء نظام سياسي عاش لعقود، في ظل الأحادية السياسية، والعمل السري، على الأقل بالنسبة للأجيال الكبيرة في السن، التي ما زالت حاضرة في الميدان السياسي بمؤسساتها الحزبية، التي تحولت إلى مصنع كبير لإنتاج وإعادة إنتاج ثقافة التآمر والشك في القريب، قبل البعيد. ثقافة سياسية كان وراءها أنا مضخمة، تدعي نوعا من العصمة لدى «الزعيم» والشخصية الوطنية، وحتى الناشط السياسي المبتدئ، لا يمكن تصور إنتاجها لممارسة سياسية مختلفة نوعيا، غير تلك التي تعرفها وتدعي محاربتها.
ممارسة معتمدة على ثقافة الريبة والشك، يدعمها يوميا التسيير السياسي الرسمي القائم على الأمني والمخابراتي، الذي يخترق، يُقسم ويُشوه حياة سياسية مشوهة أصلا، بهذه الثقافة السياسية المستمدة من سنوات الأحادية والقهر السياسي، التي تظهر لدى بعض الناشطين، على شكل تضخم مرضي للأنا، بكل ما يمكن تصوره كمخرجات سياسية لها، تحول إلى عائق فعلي أمام التغيير السياسي الذي يطالب به الجزائريون، يعطل الوصول إلى توافقات، بين هذه النخب التي لم تتعود على العمل السياسي الجماعي، بالنقاشات الفكرية التي يتطلبها، والصراعات التي يفترضها، في الوصول إلى حلول يطالب بها المواطن الجزائري، الذي عبّر حتى الآن عن مستويات تجنيد قل نظيرها، لكنه فشل حتى الآن في الوصول إلى تحقيق ما خرج من أجله. مواطن بدأ في تحديد معضلة النخبة كعائق، كما يخبره تاريخه السياسي بذلك، تعلق الأمر بالحركة الوطنية، أو حرب التحرير، التي قادها شعب عملاق تحت قيادة متواضعة جدا، كذّبت كل نظريات النخبة المعروفة. كما عكسته تجربة وجوه تاريخية، تحولت إلى إيقونات فعلية، بفعل زخم ثورة التحرير أساسا وليس بفعل ما يميزها من خصائص فردية متواضعة جدا. نخبة من دون تجربة سياسية فعلية وغرور، مع نزعة قوية للثرثرة والحديث في كل شيء، يمكن أن تتحول إلى عامل فرقة وتنفير للمواطنين وبالتالي فشل الحراك في الوصول تحقيق ما خرج من أجله، تساعده في ذلك ساحة إعلامية مشوهة وغير احترافية ونظام سياسي رافض لتقديم أي تنازل، على استعداد لاستغلال أي هفوة للحراك والذهاب بالبلد إلى حائط مسدود.
نخبة بدون تجربة سياسية فعلية وغرور، يمكن أن تتحول لعامل فرقة وتنفير للمواطنين وبالتالي فشل الحراك في الوصول لتحقيق مطالبه
أزمة نخبة، لا تظهر على مستوى الأفراد فقط، بل حتى على مستوى المؤسسات الكبرى، كالجامعات التي استمر اساتذتها، بعيدين عن الحراك كقاعدة عامة، هم الذين لا يكتبون مقالات الترقية المطلوبة منهم مهنيا، إلا تحت التهديد بالويل والثبور وعظائم الأمور، إذا استثنيا فرديات قليلة، استمرت في مواقفها المؤيدة للحراك. وهو الوضع نفسه الذي يمكن تعميمه على الطلبة الذين أنقذت سمعتهم اعداد قليلة منهم، أصّرت على الخروج في مسيرات الثلاثاء، رغم ما تعانيه من تضييق أمني، وقلة عدد في العاصمة تحديدا، دون غيرها من المدن الجامعية الكثيرة الأخرى، بقيت في الغالب الأعم غير معنية، بما يحصل خارج أسوارها.
الأدوار البطولية التي قام بها عشرات المحامين وما زالوا، تؤكد الصورة البائسة للنخبة الجزائرية، التي تحولت إلى الاهتمام بالانتخابات والعمل السياسي الموسمي الذي تتعامل معه كمصعد اجتماعي، يخرجها من تدهور أوضاعها المهنية السيئة، التي لم تنجح في تغييرها عن طريق عمل نقابي، بقيت بعيدة عنه، فكان اللجوء إلى استوديوهات القنوات التلفزيونية، كوسيلة للوصول إلى الريع، تتزلف فيه لصاحب القرار السياسي، الذي تعمل المستحيل لتبرير كل أخطائه، من باب خبرة مشكوك في أمرها، يعرف صاحب القرار قبل غيره أنها سلعة فاسدة، لا يمكن التعويل عليها. في زمن الحراك هذا الذي فتح عيون الجزائريين، وأظهر ضحالة سلعة هذه النخب «البوجادية» كما تقول اللغة الشعبية وهي تعطل الحل السياسي، كما تفعل شقيقتها الرسمية، الحاضرة على رأس مؤسسات الدولة التي لا تختلف عنها، في تواضع زادها ورفضها للتغيير السياسي، حتى ولو كان على حساب البلاد والعباد.
كاتب جزائري