إنقلاب19جوان1965
– خاتمة توظيف مجموعة وجدة لبن بلة-
أبرزنا بالتفصيل في كتابينا « رؤساء الجزائر في ميزان التاريخ » و »الجزائر في دوامة الصراع بين العسكريين والسياسيين »، كيف أن من خصوصيات النظام الجزائري منذ إسترجاع الإستقلال هو الصراع بين ثلاث أطراف، وتتمثل هذه الأطراف في كل من مؤسسات الجيش والحزب والرئاسة، ففي بداية الثورة المسلحة، كان الصراع السياسي يتم على أساس الإقصاءات، فمثلا منذ إختطاف طائرة الزعماء الخمس ظهر صراع بين كل من عبان رمضان وكريم بلقاسم، انتهى بإغتيال عبان رمضان في نهاية عام 1957، ليظهر صراع آخر بين الباءات الثلاث وبالضبط بين عبدالحفيظ بوصوف ولخضر بن طوبال من جهة وكريم بلقاسم من جهة أخرى، لينتهي بإضعاف كريم بلقاسم أثناء إجتماع العقداء العشر في نهاية عام 1959، وانتهى بصعود هواري بومدين إلى دفة قيادة هيئة أركان جيش التحرير الوطني .
كان عبدالحفيظ بوصوف يعتقد أن بومدين صنيعته، لكن وقع ما لم يكن في حسبان بوصوف، حيث استقل بومدين عنه، وأصبح يعمل لنفسه، ويخطط لأخذ السلطة، مما أدى إلى عودة التماسك بين الباءات الثلاث، لكن تمكن بومدين من إبعادهم في أزمة صيف 1962 من خلال إبعاد الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية بإستخدامه زعيم تاريخي آخر هو أحمد بن بلة .
وتمكن تحالف بن بلة-بومدين من أخذ السلطة عام 1962، لكن تحول بن بلة إلى رهينة في يد بومدين الغير المعروف لدى الشعب الجزائري، وانتقل الصراع بعد ذلك إلى الشخصيتين المتحالفتين أثناء أزمة صيف 1962، وقد لعب بومدين مع بن بلة نفس دور عبد الناصر مع محمد نجيب في مصر، وعمل هواري بومدين أثناء فترة حكم بن بلة على تحضير الأرضية الملائمة لأخذ السلطة كاملة، ولهذا السبب عرفت هذه الفترة العديد من الإضطرابات، ونعتقد أن هذه الإضطرابات وعدم الإستقرار، لم تكن فقط كنتيجة لما وقع في أزمة صيف 1962 وإقصاء الكثير من الزعماء التاريخيين للثورة، بل يبدو أيضا أن لبومدين وجماعته مسؤولية في ذلك، فقد عمل بومدين ومعه مجموعة وجدة والضباط الفارين من الجيش الفرنسي على تعفين الوضع وتشويه صورة بن بلة في أعين الشعب، وذلك بخلق العديد من المشاكل له، خاصة مع بعض زعماء الثورة، واستطاع بذلك هؤلاء المتحالفين كلهم على عزل بن بلة عن حلفائه الطبيعيين الذين أشعل معهم فتيل الثورة عام 1954، وكان معهم في الحركة من أجل الإنتصار للحريات والديمقراطية التي ولدت عنها جبهة التحرير الوطني
فقد تم إبعاد محمد خيدر بضغط من بومدين، ثم إعتقال محمد بوضياف، ونفي كريم بلقاسم، والسعي لإعدام آيت أحمد لولا نصيحة محمد بجاوي لبن بلة بخطورة ذلك وعدم تكرار عملية إعدام محمد شعباني، إلا أن بومدين ينفي هذا الطرح، ويقول أن بن بلة هو الذي كان مصرا على تنفيذ حكم الإعدام في شعباني وتصفية آيت أحمد الذي تحصن في جبال القبائل، كما دفع بن بلة إلى الإصطدام بالشيخ محمد البشير الإبراهيمي وغيرهم، بدعوى أنهم « رجعيين ومعادين للثورة الإشتراكية »، لكن تمكن بومدين فيما بعد من إستمالة الكثير من هؤلاء الذين اختلف معهم بن بلة إلى جانبه عندما أخذ السلطة كاملة عام 1965، لكنه استثنى في ذلك الزعماء التاريخيين الكبار، الذين كانت له عقدة تجاههم، بسبب ماضيهم الثوري وتفوقهم عليه من ناحية الشرعية الثورية والتاريخية.
ولم يفق بن بلة من هذه الأخطاء الفادحة التي ارتكبها إلا بعد فوات الآوان، ودفعه إلى هذه الأخطاء حبه للسلطة دون أي إعتبارات أخرى، وأكتشف متأخرا أن بومدين ومجموعة وجدة ومعهم الضباط الفارين من الجيش الفرنسي قد أستخدمته لتثبيت نفوذهم، وظهر ذلك جليا من خلال إصرار بومدين على تولي كل أعضاء مجموعة وجدة المناصب الهامة في الحكومة وفي المكتب السياسي لحزب جبهة التحرير الوطني، وبمجرد ما فكر بن بلة في إبعادهم، سبقه بومدين، وأنقلب عليه يوم 19 جوان 1965، أي تغدى به بومدين قبل أن يتعشى به بن بلة –حسب التعبير الشعبي الجزائري-، فكيف تم ذلك؟
شرع بن بلة في التخلص من مجموعة وجدة التي يقودها بومدين، فحاول في البداية إضعاف بومدين بتعيين الطاهر الزبيري قائدا لأركان الجيش الوطني الشعبي دون إستشارة وزير دفاعه بومدين الذي كان في زيارة إلى الإتحاد السوفياتي، وذهب بن بلة أبعد من ذلك، فعندما عين الطاهر الزبيري في منصبه الجديد، أمر بن بلة الطائرة التي كانت تقل بومدين إلى موسكو بالعودة إلى الجزائر، وذلك حتى يعرقل هذا الأخير على التحرك في حالة مبادرته إلى رفض قرار هذا التعيين، لكن كظم بومدين غيضه بفعل تحكمه الكبير في أعصابه، فلم يبد أي معارضة لتعيين الطاهر الزبيري رئيسا للأركان، وبدأ يخطط لتحييده أو إكتسابه إلى جانبه وتأليبه على بن بلة، فأستغل بومدين لذلك نفسية هذا المجاهد الذي تألم كثيرا بعد حادثة إهانة بن بلة له في موسكو، وذلك بعد ما طلب الزبيري منه ترقية أحد المجاهدين الكبار وهو محند ولحاج إلى منصب ماريشال، فرد عليه بن بلة بإستهزاء « انتهى عهد الموس يا سي الطاهر »، وهو نوع من السخرية بالمجاهدين الذين اعتمدوا على الأسلحة التقليدية لمحاربة فرنسا، ورد عليه الزبيري « لولا الموس لما أصبحت رئيسا للجمهورية ولما دخلت الساحة الحمراء ».
كما دخل بن بلة أيضا في مفاوضات سرية مع آيت أحمد لإبعاد بومدين، مما جعل هذا الأخير يعلق للمقربين منه بأنه « يعمل على التفاهم مع الزعماء التاريخيين، فبعد آيت أحمد سيتفاهم مع بوضياف وخيدر وكريم بلقاسم لينقلب علينا »، أي على بومدين ومجموعة وجدة فيما بعد .
وقد شرع بن بلة فعلا في ذلك، وبدأ في سحب البساط من تحت أرجل بومدين بالعمل على إبعاد رجاله عن السلطة الواحد تلو الآخر، فبدأ بوزير السياحة قايد أحمد، ثم نزع العديد من الصلاحيات من وزير داخليته أحمد مدغري، فدفعه بذلك إلى الإستقاله، كما أبعد شريف بلقاسم من وزارة التوجيه الوطني، ولم يبق من مجموعة وجدة إلا وزير الدفاع بومدين ووزير خارجيته عبد العزيز بوتفليقة .
أستغل بن بلة ذهاب بومدين إلى القاهرة لحضور إجتماع رؤساء الحكومات العرب بخصوص القضية الفلسطينية، فأستدعى بوتفليقة إلى مكتبه، وطلب منه التخلي عن الشؤون الخارجية لبن بلة بسبب قرب إنعقاد المؤتمر الآفروآسيوي في نهاية شهر جوان من عام 1965، لكن رفض بوتفليقة طلبه، ورد عليه، بأن ليس من صلاحيات بن بلة إقالته من منصبه، وأن القرار كله يعود إلى المكتب السياسي لحزب جبهة التحرير الوطني الذي هو عضو فيه، واستهدف بوتفليقة بذلك ربح الوقت، ليتصل بعناصر مجموعة وجدة الآخرين، كما هاتف زعيم المجموعة بومدين، فعاد هذا الأخير من القاهرة بسرعة قبل إنتهاء أشغال مؤتمر القمة العربية .
فشرعت نواة مجموعة وجدة في إجتماعات ماراطونية لإتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، خاصة بعد ما تأكدو من معلومات وصلتهم مفادها ان بن بلة يخطط لإبعادهم وإلقاء القبض عليهم عشية إنعقاد المؤتمر الآفرو- آسيوي، بدعوى أنه اكتشف مؤامرة إنقلابية ضده، كما تأكدوا أيضا من أن مصر ضالعة في عملية التخلص من بومدين ومجموعته، بعد ما تدعمت قاعدتهم ببوفاريك بالطائرات، ومجيء أسطول بحري مصري لتقديم الدعم لبن بلة، والقضاء على أي تحرك لوحدات الجيش الموالية لبومدين وجماعته.
وما يلاحظ في هذه الإجتماعات، التي انضم إليها فيما بعد كل من قائد الأركان الطاهر الزبيري وأمين عام وزارة الدفاع الوطني عبد القادر شابو، هو إلتزام بومدين الصمت، فلم يدل برأيه بتاتا، ويعود ذلك إلى طبيعته، وهو التحسس والسماع أكثر من الآخرين، وحتى قرار إقالة بن بلة لم يصدر عنه قط، بل تركه يصدر عن الآخرين، ولم يقبل به إلا بعد إلحاحهم وإصرارهم، ويدخل هذا الموقف ضمن أساليب بومدين في إدارة الصراعات، فهو لا يتحرك حتى يتأكد من تصميم وعزم الآخرين، وبأنهم لن يتخلوا عنه في وسط الطريق، ولم يكتف بومدين بذلك، فقد طلب من مسؤول الأمن العسكري قاصدي مرباح تقديم تقرير مفصل عن إحتمالات الفشل والنجاح لعملية الإنقلاب ضد بن بلة، وهل بالإمكان القيام بذلك دون إراقة الدماء، فحتى بعد ما تأكد بومدين من قاصدي مرباح بأن العملية ناجحة بنسبة كبيرة جدا، إلا أنه وضع في حساباته إمكانية الفشل حتى ولو كانت ضئيلة جدا، مما جعله يضع طائرة خاصة، تمكنه هو وأصحابه من الهروب إلى الخارج في حلة فشل العملية الإنقلابية.
فبعد ما استقر رأي مجموعة وجدة على الإسراع في تنفيذ عملية الإنقلاب وضرورة القيام بذلك قبل إنعقاد المؤتمر الآفروآسيوي، وسعت نواة المجموعة إجتماعاتها إلى قادة عسكريين آخرين موالين لبومدين، وهم قادة النواحي العسكرية، وتم الإقتراح في البداية أن يتم إلقاء القبض على بن بلة عشية 17 جوان عند خروجه من ملعب وهران، أين كان من المفروض أن يشاهد فيها مقابلة لكرة القدم بين الجزائر والبرازيل سيشارك فيها اللاعب الأسطورة بيللي، لكن نبههم بوتفليقة أن عملية بهذا الشكل سيكون لها تأثير سلبي، وتعد من الرأي العام أنها إختطاف لبن بلة، واستقر الأمر في لأخير على إلقاء القبض عليه ليلة19جوان في بيته بفيللا جولي.
انتقلت مجموعة من قادة الإنقلاب، وهم الطاهر الزبيري قائد أركان الجيش وسعيد عبيد قائد الناحية العسكرية الأولى أي البليدة وسليمان هوفمان قائد سلاح الدبابات، وهو من الضباط الفارين من الجيش الفرنسي إلى إقامة بن بلة ليلة 19 جوان 1965 على الساعة الواحدة ونصف ليلا، بعد ما تم إستبدال الحراسة بجنود موالين للإنقلابيين بواسطة مسؤول مديرية الأمن الوطني أحمد دراية.
وتم إعتقال بن بلة، وأخبره الطاهر الزبيري أن مجلسا للثورة قد تشكل، وأقاله من منصب رئيس الدولة، ونقل بن بلة إلى وزارة الدفاع ومنها إلى معتقل في دويرة، ونصب بومدين نفسه رئيسا لمجلس الثورة والحكومة، ولهذا أصبح الرجل الأول في الدولة، لكن كي يستتب له الأمر نهائيا يجب عليه التعامل مع قوى أخرى والسعي لكسبها إلى جانبه قبل الإستتباب التام للحكم في يده، كما يجب عليه إقناع الرأي العام الوطني والدولي بشرعية عمله، وهذا ما سنتطرق إليه من خلال ردود الفعل المختلفة على الإنقلاب وكيف عمل بومدين للرد عليها؟
يدرك بومدين جيدا أن مادام الجيش في يده فلا خوف على حكمه، لأن الجيش هو القوة المنظمة الوحيدة الموجودة في البلاد، أما الشعب فلا معنى له في نظره، مادام أنه ليس منظما، بل يستخدم فقط للحديث بإسمه حسب بلعيد عبد السلام، ولهذا فلم يكن للشعب أي رد فعل يذكر بإستثناء بعض أحداث الشغب الطفيفة هنا وهناك تم القضاء عليها في بضعة لحظات، هذا ما يبين لنا مدى الوهم الذي كان يعيش فيه بن بلة عندما اعتقد أن الشعب كفيل بحمايته، مادام أنه يهتف بإسمه في مختلف تجمعاته الجماهيرية، ولا يعلم أنه سيهتف أيضا بإسم بومدين فيما بعد والشاذلي بن جديد وآخرون سيأتون بعدهن وان ذلك لامعنى له.
لكن يبدو أن بن بلة كان يسعى لتنظيم الشعب بواسطة حزب جبهة التحرير الوطني ومنظماته الجماهيرية المختلفة، وكان يعتقد أن بإمكان الحزب أن يصبح هو القوة الأكثر تنظيما مثلما حدث في بعض البلدان الشيوعية، وبإمكانه أن يواجه به الجيش التابع لبومدين، لكن هنا أيضا خابت حسابات بن بلة، فلم يحرك الحزب ساكنا، بعد ما استولى عليه بومدين بتعيينه شريف بلقاسم على رأسه، ولأن حزب جبهة التحرير الوطني في الجزائر منذ الإستقلال إلى حد اليوم، هو مجرد جهاز تابع لمن في يده السلطة الفعلية، ومن السهل جدا الإستيلاء عليه، ولم يبق لبومدين بعد ذلك إلا إبعاد كل المخلصين لبن بلة بداخل الحزب، ولم يتحرك من داخل الحزب إلا بعض عناصره اليسارية أي الشيوعية التي كانت في الحزب الشيوعي الجزائري سابقا، والتي أدخلها بن بلة إلى الحزب لدعم سياسته، لكن تشكل هذه العناصر اليسارية في حقيقتها تنظيما شيوعيا مؤمنا بقناعاته ومنظم جيدا داخل حزب جبهة التحرير الوطني، فهؤلاء الشيوعيين هم الوحيدين الذين أقلقوا فعلا الإنقلابيين بإنشائهم « منظمة المقاومة الشعبية » لإسقاط بومدين « الفاشي والمعادي للإشتراكية والشيوعية » -في نظرهم-، خاصة وأن لهم دعم من القوى والدول الشيوعية في العالم، كما استولوا على الكثير من مراكز الدولة بمساعدة بن بلة، وهذا التنظيم هو الذي سيتحول فيما بعد إلى « حزب الطليعة الإشتراكية »
نعتقد أن بومدين قد وضع حسابه لعاملين أساسيين أولهما العصبية الجهوية، ولهذا لم يعتقل أي فرد بإستثناء ثلاثة عناصر تنحدر كلها من نفس منطقة بن بلة وهم الحاج بن عللا رئيس المجلس الوطني ومحمد صغير النقاش وزير الصحة وعبد الرحمن شريف مستشار بن بلة للشؤون الأمنية والعربية الذي له علاقات وإرتباطات بمصر ومخابرات عبد الناصر، ويعتقد بومدين أن هؤلاء مخلصين لبن بلة، ليس بسبب قناعات أيديولوجية أكثر مما هو تضامن معه على أساس عصبية جهوية.
أما العامل الثاني الذي وضعه بومدين في حسابه، فيتمثل في سعيه لإكتساب أكبر قدر ممكن من ممثلي مختلف القوى في البلاد إلى جانبه في البداية على الأقل، وهذا ما يظهر بجلاء من خلال إقناعه العديد من العناصر التي تمثل مختلف هذه القوى المؤثرة بشكل أو بآخر بالإنضمام إلى مجلس الثورة، الذي يعد القيادة العليا في البلاد بعد الإنقلاب.
يلاحظ غداة الإنقلاب على بن بلة عدم تحرك الجماهير الشعبية التي كانت تصفق له وتنادي بإسمه عند كل ظهور له، ولم يتوان الكثير من هؤلاء بالذهاب إلى السنيما وشواطيء البحر يوم الإنقلاب غير آبهين بما يحدث، بإستثناء بعض أعمال الشغب لمجموعات صغيرة لأطفال وشباب بالعاصمة انتهت بسرعة، وبعض الأحداث الطفيفة في كل من وهران وعنابة، لكنها لم تستمر طويلا، ليعود الجميع إلى بيوتهم، وتنطبق معاناة الجزائريين بشعارهم « مات الملك، عاش الملك » .
أما بشأن القريبين من بن بلة، فنجد ثلاث مواقف، فبعضهم قبل عرض بومدين بقبول العضوية في مجلس الثورة، ومنهم أحمد محساس وبشير بومعزة معتقدين أنهم بإمكانهم التأثير على بومدين من الداخل، لكنهم فشلوا، فاختاروا المنفى بعد عام من الإنقلاب على بن بلة، وتوجد مجموعة أخرى أختارت المعارضة من المنفى منذ البداية وهم أيت الحسين ومحمد لبجاوي اللذان أسسا في أوروبا المنظمة السرية للثورة الجزائرية O.C.R.A، والتي حددت أهدافها في الإطاحة بنظام بومدين وإعتبار بن بلة هو الرئيس الشرعي للبلاد، لكن أقوى معارضة لإنقلاب بومدين على بن بلة جاءت من يساريي جبهة التحرير الوطني، أي بعبارة أخرى الماركسيين، وهم محمد حربي وحسين زهوان الذين تحالفوا مع مجموعة من الطلبة الشيوعيين وعناصر الحزب الشيوعي الجزائري سابقا، وأسسوا منظمة مسلحة تدعى « منظمة المقاومة الشعبية »، واعتمدت العمل المسلح ضد نظام بومدين بهدف الحفاظ والدفاع عن ما اعتبروه الثورة الإشتراكية التي شرع فيها بن بلة في الجزائر، لكن ما فتيء الكثير من هؤلاء أن التحقوا بنظام بومدين فيما بعد، بعد ما اكتشفوا أنه ليس فاشيا وعميلا للأمبريالية الأمريكية كما كانت تروج الصحافة العالمية آنذاك خاصة اليسارية منها، ومن هذه المنظمة سينبثق فيما بعد حزب الطليعة الإشتراكية.
أما على الصعيد الدولي فقد عارضت الكثير من القوى الشيوعية في العالم هذا الإنقلاب، ومنها كوبا فيدال كاسترو صديق بن بلة، وكذلك جوليوس نيريري في تانزانيا وغيرهم، اما جمال عبد الناصر الذي صنع بن بلة ودعمه، فقد أبدى قلقه على حياة بن بلة، وأرسل المشير عبد الحكيم عامر ليطلب من بومدين السماح له بلقاء بن بلة، فرفض بومدين هذا الطلب رفضا باتا، لكن لم يكن عبد الناصر-حسب ما يبدو-مستعدا للإٌصطدام بالنظام الجديد في الجزائر، وفضل عبد الناصر مصلحة نظامه في هذه القضية، فهو لا يريد أن يخسر الجزائر، وبلده مصر في وضع لا يحسد عليه بسبب تدخله في اليمن وخلافاته مع الكثير من الأنظمة العربية، بالإضافة إلى الخطر الأمريكي الصهيوني المحدق بمصر آنذاك.
. كما قلقت فرنسا على مصير بن بلة، وطلب سفيرها دولاغورس لقاء وزير الخارجية بوتفليقة، الذي طمأنه أن بن بلة لم يقتل في الإنقلاب، وبأن العلاقات الفرنسية-الجزائرية الجيدة لن يطرأ عليها أي تغيير.
و بهذا الشكل انتهى أحمد بن بلة، وجاء مكانه هواري بومدين الذي أتى ببن بلة إلى السلطة عام 1962، لكن تواصلت نفس السياسة والممارسات تقريبا التي وضعها نظام بن بلة-بومدين عام 1962 عندما أستولوا على السلطة سويا بواسطة جيش الحدود وعلى حساب مجاهدي الداخل، الذين لم يرحمهم هذا الجيش بقيادة بن بلة –بومدين، كما لم يرحمهم الجيش الإستعماري من قبل، ويرى الكثير أنه هنا تكمن بدايات مأساة الجزائر المزمنة والممتدة إلى حد اليوم، ومنهم بن بلة ذاته الذي اعترف بأخطائه القاتلة في نقد ذاته .
ومن هذه الإعترافات هو قوله صراحة بإنحرافه عن مباديء أول نوفمبر1954، وتسليمه الحكم لأناس لاعلاقة لهم بالثورة، حيث قال « انحرفت ثورة أول نوفمبر عن خطها، وصودرت السلطة على يد أناس كانوا يعيشون في المغرب وتونس أثناء الثورة التحريرية، وكانت أفكارهم السياسية وسلوكاتهم اليومية غريبة وأجنبية عن مباديء أول نوفمبر »، كما تأسف على عدم حل حزب جبهة التحرير الوطني، كما كان يطالب به بوضياف آنذاك وتعويضه بمجالس التسيير الذاتي، التي كان من المفروض تعميمها على كل المجالات والميادين، فيحكم الشعب نفسه بنفسه من خلالها.
البروفسور رابح لونيسي
17 / 06/ 2020 http://www.librealgerie.info