رضوان بوجمعة. صحافي من الجزائر. السفير العربي 2019-09-12
عَرفت الجزائر منذ إلغاء المسار الديمقراطي في كانون الثاني/ يناير 1992 خمسة اقتراعات رئاسية، سوّقتها السلطة على أنها مصيرية لإنقاذ البلاد وحل مشاكلها وإنقاذ الجيش من الأزمة. واليوم يعلن الشعب الجزائري الثائر منذ شباط/ فبراير أنه « مكانش انتخابات مع العصابات »! .
ستسير الجزائر نحو بناء آليات الرقابة وثقافة السلطات المضادة في ممارسة الحكم، حين تنجح في تأسيس نسق جديد يحوّل الانتخابات إلى موعد تجديد العقد بين الحاكم والمحكوم أو تمديده أو فسخه.
والجزائر، منذ إلغاء المسار الديمقراطي في كانون الثاني /يناير 1992 عرفت خمسة اقتراعات رئاسية، وهي كلها سوّقتها السلطة على أنها مصيرية لإنقاذ البلاد وحل مشاكلها وإنقاذ الجيش من الأزمة.
الاقتراع الأول 1995
تمّ فرض اقتراع 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1995 بالعنف والتخوين وحملات كراهية لا مثيل لها ضد كل من دعا إلى مقاطعته، حيث تم تقسيم الجزائريات والجزائريين آنذاك بين « وطنيين » و »غير وطنيين »، وبين « مخلصين » و »غير مخلصين »، وبين أنصار التدخل الأجنبي وأعدائه، بل واتُهم المقاطعون والرافضون للاقتراع بأنهم من أعداء الجزائر في الداخل والخارج، وبأنهم يبررون الإرهاب ويسعون للوصول إلى السلطة عن طريقه.. وتمّ هذا الاقتراع بمساعدة قيادات حزبية من تيارات أيديولوجية مختلفة بل ومتناقضة، قبلت أن تلعب « دور الأرانب » (تعبير مستخدم في الجزائر للقول انهم يتسابقون للحفاظ شكلياً على المظهر الديمقراطي والتنافس – ملاحظة من المحرر) في اقتراع أعطى للجنرال زروال شرعية صنعتها المخابرات والشبكات التي وضعته في السلطة، وبنت له صورة الجنرال الذي يملك قوة القضاء نهائياً على الإرهاب واستئصاله من الجذور.
أخرج اقتراع 1995 صراعات عُصب (زُمر) وشبكات النظام إلى العلن، كما عرفت المجازر الجماعية تصاعداً رهيباً واختطافات قسرية على امتداد كل البلاد، والقتل المبرمج للمساجين في سجون سركاجي والبرواقية وغيرها، بالإضافة لبعض الاغتيالات السياسية.. لتنتهي بإعلان استقالة زروال في أيلول/ سبتمبر 1998
فرض هذا الاقتراع تحت شعارات « بناء الصرح المؤسساتي » ومعه شعار انتخابي لزروال يقول « لنبني الجزائر معا ». وبعد ثلاث سنوات من الحكم لم يقضِ الجنرال لا على الإرهاب ولا على الخوف ولا على الرعب، بل حدث العكس. ولم يبنِ لا الدولة ولا الاقتصاد. ما تمّ فقط هو تمكّن زروال من تغيير دستور النظام الذي أوجد غرفة ثانية للبرلمان بثلث معطِّل في مجلس الأمة يمكّن رأس السلطة التنفيذية من مواجهة أية نخب جديدة قد تسعى لتحويل البرلمان إلى سلطة تشريعية تمارس الرقابة على الأجهزة التنفيذية. كما أسس الجنرال محمد بتشين مع الجنرال زرول حزب « التجمع الوطني الديمقراطي » (RND « أرندي ») كواجهة حزبية ثانية فيما يسمى التيار الوطني، بالإضافة للواجهات الأخرى الإسلاموية والعلمانية وغيرها. والأخطر أن هذا الاقتراع أخرج صراعات عُصب وشبكات النظام إلى العلن بحرب استخدمت فيها صحف شبكات نزار وتوفيق وبلخير وتواتي (قادة المخابرات المتتالين – ملاحظة من المحرر) ضد إعلام شبكات بتشين وزروال، كما عرفت المجازر الجماعية تصاعداً رهيباً واختطافات قسرية على امتداد كل تراب الجمهورية، وكذلك القتل المبرمج للمساجين في سجون سركاجي والبرواقية وغيرها، بالإضافة لبعض الاغتيالات السياسية المرتبطة بحروب العصب والشبكات لتنتهي بإعلان استقالة زروال في أيلول/ سبتمبر 1998
الاقتراع الثاني 1999
وأما اقتراع نيسان /ابريل 1999الرئاسي، فقد عادت فيه شبكات وعصب المنظومة لتتوافق على شخص عبد العزيز بوتفليقة وتفرضه على الجزائريين والجزائريات، وهو توافق شارك فيه زروال نفسه بفرضه الاقتراع وقد ندد به المنافسون الستة لبوتفليقة وأعلنوا انسحابهم منه. بوتفليقة فرض بتوافق كل العصب، لذلك عملت كل الأجهزة الحزبية المرتبطة بالمنظومة على مساندته، من « حركة مجتمع السلم » الاسلامية (حمس) وحتى « حزب التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية » (RCD « الأرسيدي ») اللذان شاركا في أول حكومة شكلها بوتفليقة، إلى بن فليس الذي انتقل من إدارة الحملة إلى إدارة الديوان بالرئاسة إلى رئاسة الحكومة والأمانة العامة للحزب، وهي كلها تحالفات لشبكات وعصبيات المنظومة.
كان بوتفليقة يقول إن « يداه لم تتلطخا بدماء الجزائريين »، وهي المفاخرة التي سقطت بعد أن تمّ تفجير الوضع بمنطقة القبائل في نيسان/ إبريل 2001، واغتيال 126 شاباً في أحداث لم يكشف لحد الآن عن العُصب والشبكات التي فجرتها. لكن الأكيد أنها الأحداث التي أنهت خطابات بوتفليقة حول عدم تلطخ يديه بدماء الجزائريين.
بدأ هذا الاقتراع الذي تم تصويره على أنه يهدف لبناء السلم والوئام، باغتيال سياسي استهدف شخص عبد القادر حشاني، وهو كان أحد مؤشرات صراعات العصب حول الشكل الذي يأخذه « الوئام والسلم »، ثم بدأ بوتفليقة يدلي بخطاباته « الماراتونية » ويطلق النار على بعض العصب، ومرر ميثاق السلم والمصالحة الذي كان الهدف منه هو ضمان الإفلات من العقاب لكل المجرمين من كل الشبكات والعصب. وكان في كل خطاب لا يتردد في القول للجزائريين إن « يداه لم تتلطخا بدماء الجزائريين »، وهي المفاخرة التي سقطت بعد أن تم تفجير الوضع بمنطقة القبائل في نيسان/ إبريل 2001 واغتيال 126 شاباً في أحداث لم يكشف لحد الآن عن العصب والشبكات التي فجرتها. لكن الأكيد أنها الأحداث التي أنهت خطابات بوتفليقة حول عدم تلطخ يديه بدماء الجزائريين.
أدت هذه الأحداث إلى بداية صراعات جزء من العصب في المنظومة، وإعلان سعيد سعدي (زعيم RCD) خروجه من الحكومة على الرغم من رفض وزرائه تطبيق الأمر، ليستمر الوضع إلى غاية اقتراع 2004، وهو الاقتراع الذي عرف صراعا آخر للعصب، وانفجار فضائح فساد أهمها قضية الخليفة (صاحب إمبراطورية متنوعة نشأت بلمح البصر، وهي تملك استثمارات في القطاع المصرفي والنقل الجوي والبناء والعقارات والتلفزيون وتأجير السيارات الفخم، وقدرت قيمة أعمال المجموعة بمليار دولار، وقد حكم عليه غيابياً – ملاحظة من المحرر)، ليترشح علي بن فليس ضد بوتفليقة بدعم من قائد الأركان السابق الراحل محمد العماري. بقي بوتفليقة في قصر المُرادية، وأقيل محمد العماري وعُيّن قايد صالح مكانه.
الاقتراع الثالث 2004
كان هدف بوتفليقة المعلن في هذا الاقتراع هو إعادة الجزائر للساحة الدولية وإطلاق مشاريع اقتصادية وبناء المنشآت. لكن ما تم هو استمرار صراعات العصب والشبكات في حروبها المستمرة عبر الأجهزة الحزبية وأدوات الدعاية الإعلامية، والأذرع المالية والاقتصادية، حيث بدأت تظهر أوليغارشيا موالية لشبكات بوتفليقة تعلن حرب النفوذ ضد الأوليغارشيا التي صنعتها شبكات توفيق وتواتي ونزار (كانوا قادة اجهزة المخابرات – ملاحظة من المحرر) وغيرها.
الاقتراع الرابع 2009
عرف حملة إقالات عند العسكر وفي مختلف الأجهزة الإدارية، في حملات إضعاف الشبكات لبعضها البعض، كما عرفت بداية تشكيل شبكات بوتفليقة والأوليغارشيا التي صنعها، وأجهزتها الحزبية والإعلامية الجديدة. فتم تأسيس « حزب تجمع لأمل الجزائر »(« تاج ») من قبل الوزير السابق عمار غول وكذلك « الحركة الشعبية » لبن يونس وغيرها، والتي كانت بديلاً لـ »حمس » والـ »أرسيدي » خاصة بعد اندلاع انتفاضات 2011. كما أطلقت صحف عديدة وقنوات تلفزيونية وتمّ إضعاف أخرى كانت من أدوات الحرب ضد زروال وبوتفليقة. وهذه الأجهزة الحزبية والإعلامية حضّرت الجو لفرض بوتفليقة في عهدة رابعة سنة 2014 على الرغم من مشاكله الصحية، وقد عرف اقتراع 2014 ترشح علي بن فليس بدعم من شبكات « توفيق » الذي رفض كما رفض « تواتي » وأذرعه السياسية والاقتصادية بقائه على رأس المرادية.
عهدة بوتفليقة الرابعة عرفت أحداثاً كبيرة، من أهمها إدارة تبعات أحداث تيقنتورين، في 2013، واعتقال كبار ضباط المخابرات، ثم إقالة توفيق مدين في 2015، وتغول الأوليغارشيا في تعيين الوزراء والمدراء ومسؤولي الأمن، وفي فرض نواب في الغرفتين. واستمرت الحروب الاقتصادية والمالية بين شبكات ربراب وكونيناف وحداد وطحطوت وبن حمادي (اسماء لكبار رجال المال والاعمال – ملاحظة من المحرر) وغيرها، وهو الوضع الذي أدى إلى ترهل ما تبقى من صورة السلطة التي كان مرضها أخطر من مرض رئيس مقعد، حولت القنوات التلفزيونية الخاصة ظهوره وتحريك يده إلى حدث مهم وجب التهليل له وتعظيمه.
الاقتراع الخامس 2019
كان واضحا أن اقتراع نيسان/ إبريل 2019، سيكون موعداً لتصارع العصب، وكانت كل عصبة تحاول استمالة الشارع لصالحها، فترشح الجنرال علي لغديري بدعم من الشبكات الاقتصادية والسياسية والإعلامية لتوفيق مدين، وكان في ظهوره الإعلامي يقول إنه يعول على تسونامي بشري يوصله إلى قصر المرادية. وبدأت معها التصريحات والتصريحات المضادة، واندلعت حرباً بين الجنرال بن حديد والقايد صالح المتهم بفرض بوتفليقة في الحكم مدى الحياة. ولما ترشح بوتفليقة للعهدة الخامسة، كان قايد صالح قد بدأ من الناحية العسكرية حملات مساندة الاستمرارية من أجل « تفادي مخططات الخارج » كما كان يقول.
واليوم: « مكانش انتخابات مع العصابات »
اسقطت ثورة الشعب منذ 16 شباط/ فبراير إلى اليوم، بوتفليقة وشبكاته وبعض وجوه العصب التي تحالفت معه وحتى تلك التي تحالفت ضده، وأسقطت جزء من العصب والشبكات التي أسماها قائد الأركان بـ »العصابة ». وعاد اليوم الحديث عن ضرورة الذهاب لاقتراع رئاسي في كانون الاول/ ديسمبر القادم. وهو يؤكد أن الاقتراع هو « الحل للأزمة »، في حين أن الثورة الشعبية ترفض تنظيم انتخابات بالآليات نفسها، بشعار « مكانش انتخابات مع العصابات »، وهو شعار يبين أن الثورة الشعبية تعتقد أن هذا الاقتراع لن يحل المشكل، بل وقد يكون هو المشكل الذي سيعقد الوضع، وقد يؤدي إلى تهديد استمرارية الدولة، خاصة وأن الشبكات السياسية والإعلامية والإدارية نفسها التي ساندت بوتفليقة تصفق لهذا الاقتراع، في محاولة لإعادة إنتاج المنظومة وضمان استمرارية شبكاتها في تسيير الحكم.
الانتخابات المزمع اجراؤها في كانون الاول/ ديسمبر المقبل لن تحل المشكل، بل قد تكون هي المشكل الذي سيعقّد الوضع، وقد يؤدي إلى تهديد استمرارية الدولة، خاصة وأن الشبكات السياسية والإعلامية والإدارية نفسها التي ساندت بوتفليقة تصفق لهذا الاقتراع، في محاولة لإعادة إنتاج المنظومة وضمان استمرارية شبكاتها في تسيير الحكم.
ولهذا كله وغيره يمكن القول إن اقتراعات الماضي ومنذ 1995 هي اقتراعات العصب والشبكات، وهي قتلت البشر وأهلكت الحرث والنسل، وانتجت الفساد ودمرت الأجيال واستأصلت السياسة من المجتمع، وحولت الأجهزة الحزبية إلى أدوات في خدمة الفساد والمفسدين، في حين أن الثورة الشعبية تريد انتخابات تبني الدولة وتوجِد آليات جديدة لبناء منظومة حكم تتأسس على فلسفة المساءلة، وهي ثقافة الأجيال الجديدة التي تريد قطيعة معرفية تنهي ماضي العصب والعصبيات والشبكات التي تغامر بالأمة وبنسيجها الاجتماعي من أجل انقاذ المنظومة والتضحية بالجزائر. وهو ما يرفضه الجزائريون والجزائريات ويؤكدون عليه منذ ما يقارب سبعة أشهر، ولذلك فإن تنظيم الاقتراع القادم بالآليات والأدوات القانونية والسياسية نفسها هو تكرار لاقتراعات الماضي ولا يمكن إلا أن يكون عملية تدمير جماعية، لأنه سينتج رئيساً ضعيفاً، تسيره عصب وشبكات المنظومة التي بلغت من الجنون والصراع والتحالف مع الامبريالية العالمية ومن انعدام الوطنية مبلغاً ينذر بانهيار شامل لا يبقي ولا يذر.