بقلم رضوان بوجمعة. أستاذ بكلية الإعلام و الإتّصال بجامعة الجزائر
ستتمكن الجزائر الجديدة من بناء أحزاب سياسية حقيقية، لما تحدث القطيعة الايبستمولوجية مع القيادات الحزبية الحالية التي يمكن القول إن الغالبية الساحقة منها متورطة، وحتى النخاع، في علاقاتها بمختلف عصب وشبكات وعصبيات السلطة، وأدنى هذا التورط هو مساندة كل السياسات التي فرضتها السلطة منذ إقرار التعددية، بالإضافة إلى ظاهرة اختلاط المال بمسار هذه القيادات، التي دخل الكثير منها العاصمة من صالوناتها وفي ظرف قياسي أصبحت تعيش في ثراء فاحش يعلمه العام والخاص.
هذه القيادات الحزبية التي خانت قواعدها ومناضليها قبل أن تورط الأمة، كل الأمة، في مساندتها لسياسات كارثية أوصلت البلد لدرجة أصبح فيها قائد أركان الجيش مرغما للحديث عن وجود عصابة كانت تسير قصر المرادية وقصر الدكتور سعدان والعديد من الوزارات والمؤسسات.
منذ إقرار التعددية في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، والتسيير الإداري والأمني للقيادات الحزبية مكن من فرض قطبية ثنائية بين ما يسمى الإسلاميين والعلمانيين، وفي هذا التجاذب كانت السلطة الفعلية دائما تعرض نفسها كسلطة أمر واقع لحماية الأمة، كما كانت تقول من جنون الإسلاميين والعلمانيين.
القيادات الحزبية من التيارين لعبت دورا أساسيا في تقسيم الجزائريين والجزائريات وتفادي أي توافق تاريخي وسياسي في المجتمع، وقد خدمت هذه الأدلجة السلطة والقيادات الحزبية على حد سواء، وتمكنت الكثير من الدكاكين السياسية من إيجاد ضالتها في سياسة الكوطات الانتخابية التي تقاطعها الأمة الجزائرية بشكل واسع منذ توقيف المسار الديمقراطي في جانفي 92.
ومنذ انطلاق الثورة في 22 فيفري الماضي، عوض أن تعمل القيادات الحزبية على فتح نقاش داخلي لتقوم بنقد ذاتي لسياساتها ومواقفها الكارثية، خرج الكثير منها وتباكى كل من جهته على أنه كان ضحية وليس طرفا فيما حدث! فعبد الرزاق مقري مثلا، قال دون أي خجل، أمس، أنهم ضحية حملة لأن خصومه العلمانيين على حد قوله يعرفون قوته الانتخابية، رغم أنه يعلم ربما أكثر من غيره، أن القوة الانتخابية غير موجودة منذ إلغاء المسار الديمقراطي، لأن الانتخابات منذ سنة 95 لا يشارك فيها أكثر من 15 بالمائة من الناخبين، ولذلك الحديث عن القوة الانتخابية كالحديث عن قوة الإيمان لدى من يمارس « النفاق » كشعيرة دينية، ألم يكن حريا بمقري أن يواجه مناضليه والجزائريين والجزائريات بخطاب الاعتذار أولا من موقفهم في التسعينيات لما خرج شيخهم الراحل بعد انقلاب 92، يقول: « إن الجيش الجزائري ليس جيشا انقلابيا بل هو جيش جمهوري، خرج ليحمي الديمقراطية من أعدائها »، ألم يكن من الواجب على مقري أن يطلب الاعتذار من الشعب بعد مساندتهم لبوتفليقة سنة 99 في انتخابات مزورة، وفي 2004 وصوت هو ونواب حزبه على فتح العهدات ومساندة بوتفليقة بعهدة ثالثة، بالإضافة إلى المشاركة في حكومات بوتفليقة بوزراء الكثير منهم غارقون في الفساد!
ألم يكن جديرا بمقري أن يطلب الاعتذار من مناضليه ومن الجزائريين عن المفاوضات التي قادها مع السعيد بوتفليقة لتمديد حكم شقيقه عبد العزيز، وخرج بعد فشل المسعى يخاطب الجزائريين وكأنه يتشفى: « لم تقبلوا بالتمديد مبروك عليكم العهدة الخامسة »، ولكن عوض كل هذا، خرج ليقول إن العلمانيين يريدون الانقضاض على الحراك رغم أن الكل يعلم أن هؤلاء العلمانيين كانوا جيرانه وجيران قيادات حركته في نادي الصنوبر ، وكانوا في خندق واحد مع نزار وتواتي وتوفيق وبلخير واسماعيل العماري، وأيدوا كل السياسات التي أنتجت 200 ألف قتيل و12 ألف مفقود ووو ودمار نفسي أصاب كل المجتمع.
وأسابيع قبل ذلك خرجت الأجهزة الحزبية التي تتاجر بالحداثة، فأنتجت « قيطو » آخر تحت مسمى « البديل الديمقراطي » يحمل الكثير من الخطابات والاصطفاف الايديولوجي الذي يرجعنا إلى متاهات التسعينيات، بل وتجرأ أحد القياديين على القول إنه هو وحزبه لا ينتابهم أي ندم مما فعلوه من تأييد وتصفيق لما حدث في جانفي 92، وهو ما يعني أنه غير متأسف من كل القتل الذي حصل والذي كان نتيجة هذه السياسة الأمنية المجنونة!
الأجهزة الحزبية اليوم كلها، ودون أي استثناء من التي أيدت أو عارضت بوتفليقة، هي جزء من المشكل الذي نعيشه، وهي تعطي مؤشرات واضحة أنها لا تعرف المجتمع ولم تفهم ما يحدث في الشارع منذ ما يقارب سبعة أشهر، وهو الأمر الذي يُبين أن الثورة الشعبية لابد أن تدخل الأجهزة الحزبية في حركة تمرد شاملة يقودها جيل من الشباب المتنور بغية تنظيم عملية تغيير شامل لكل القيادات التي ربطت علاقة بعصب وشبكات النظام التي تتفاعل اليوم داخل صالونات السلطة وخارجها. هذه العملية قد تسميها هذه القيادات الشابة بمشروع « تتنحاو قاع »، لأن هؤلاء يشكلون عائقا لبناء توافق تاريخي بين كل الجزائريين والجزائريات، ولا يمكن أن نبني الجزائر الجديدة بقيادات تعيش الثراء الفاحش ومتورطة كلها في إطالة عمر منظومة كادت أن تفكك الدولة والأمة والنسيج الاجتماعي.
الثورة ستولد نخبة سياسية جديدة بقيادات جديدة وبأفكار جديدة تحدث القطيعة مع قيادات حزبية عاشت في ريع السلطان وفي المخابر المظلمة للنظام، و اصبحت تشكل عائقا حقيقيا للبناء السياسي لدولة الحق و القانون.
الجزائر في 26 أوت 2019
تحرير رضوان بوجمعة