mai 30, 2021
53 mins read

صناعة الرغبات: كيف تتحكم في حياة وطريقة تفكير إنسان؟

صناعة الرغبات: كيف تتحكم في حياة وطريقة تفكير إنسان؟ / ترجمة: يوسف النوخذة

دراسات 

لطالما كان سؤال السيطرة والتحكّم في الناس ومصائرهم وحيواتهم مطروحاً بشكل أو بآخر في النقاشات السياسية والاجتماعية التي تشغل الرأي العام. والتي تلقي بدورها ظلالا على مختلف مجالات الحياة الأخرى، بحكم الطبيعة الحساسة والمؤثرة لهذه المجالات على الفرد وعلى المجتمع ككل. تتعدد الآراء في هكذا مواضيع وتنقسم بين طرفي نقيض؛ طرف يستغرق في نظريات المؤامرة وشيطنة السلطة حتى لا يكاد يبقي شيئا محسوسا في الواقع الخارجي إلا وربطه بنظرية مؤامرة هنا أو هناك، من دون الحاجة إلى أي دليل منطقي أو عقلائي. فأصحاب السلطة يهدفون في كل شئ تراه إلى التحكّم فيك وفي حياتك، بدءاً من ألعاب الأطفال ورسوم الكرتون، ووصولا إلى التكنولوجيا والأجهزة الذكية ومؤسسات الإعلام الضخمة وغيرها. أما الطرف الآخر تجده يستسخف هذه النظرة ويصدّق، ولو بشكل مجمل، الشعارات والمثاليات التي يرفعها أصحاب السلطة والنفوذ في المجتمع محليا وعالميا، مفترضاً فيهم البساطة وحسن النية. ويعزو تفوقهم وحصولهم على كذا وكذا سلطة، وكذا وكذا نفوذ، إلى صدقهم واجتهادهم وذكائهم وما شابه، فهذا هو ما يجعل الناس تميل إلى هؤلاء وتصدّق كلامهم وتتبعهم في مختلف المواضيع .. فأين تقع الحقيقة بين هاتين النظرتين؟

لإلقاء الضوء على هذه المواضيع بشكل أكبر، ولعرض زاوية جديدة لمقاربتها، قمنا بترجمة هذا اللقاء للمفكر الأمريكي والناشط السياسي المعروف د. نوام تشومسكي [1]. لنرى ماهي نظرة تشومسكي حول هذا الجدل، وماذا لديه ليضيفه حول الموضوع:

الرجل: إذا حظينا يوماً ما بمجتمع من دون دوافع الرواتب ومن دون سلطة، فمن أين سيأتي الدافع للناس كي يتطوروا ويتقدموا؟
تشومسكي: حسنا، في البداية أعتقد أنك يجب أن تسأل: ماذا يعني هذا الدافع لـ “التقدّم”؟. إذا كان هذا يعني دافعا لـ إنتاج المزيد فمن هو الذي يريد هذا؟ هل هذا بالضرورة هو الأمر الصواب لنفعله؟ هذا ليس بديهيا. في الحقيقة، في مجالات عديدة ربما يكون هذا أمرا خاطئا ولا يجب فعله، وربما كان من الأفضل ألا يكون هناك دافع موحّد للناس نحو الانتاج. البعض يقول أن الناس يجب أن “يُدفعوا” نحو امتلاك “رغبات” معيّنة في نظامنا .. لكن لماذا؟. لماذا لا تتركهم وشأنهم حتى يكونوا مسرورين، ويفعلوا أشياء أخرى؟.
أي “دافع” هنالك يجب أن يكون نابعا من الداخل. فقط ألقِ نظرة على الأطفال: إنهم مبدعون، ويستكشفون الأشياء، ويريدون تجربة أمور جديدة. أعني؛ لماذا تجد الطفل يبدأ بالمشي؟ الطفل بعمر السنة الواحدة يحبو بشكل جيد، ويستطيع أن يذهب إلى أي مكان يعجبه في الغرفة بسرعة، إلى درجة أن والديه يجب أن يركضوا خلفه حتى يمنعوه من أن يُسقط كل شئ على الأرض، ثم فجأة ينهض هذا الطفل ويبدأ في المشي. في البداية تجده سيئا في المشي: يمشي خطوة ثم يتعثر ويقع على وجهه، وإذا كان يريد فعلا أن يذهب إلى مكان آخر فإنه سيقوم بالحبو مرة أخرى. إذن لماذا نجد الأطفال يبدؤون بالمشي والأمر كذلك؟. حسنأ، هم فقط يريدون القيام بأمور جديدة، هذه هي الطريقة التي خلق عليها البشر. نحن مخلوقون بطريقة تجعلنا نرغب في فعل أمور جديدة، حتى لو كانت هذه الأمور غير فعّالة، بل وحتى لو كانت ضارّة وسببت ألما، ولا أعتقد أن ذلك سيتوقف أبداً.
الناس يريدون الاستكشاف، نحن نرغب بأن ندفع قدراتنا إلى حدودها القصوى، وبأن ندرك إمكانياتنا ونقدّرها. لكن بهجة الإبداع هذه هي أمر يتيسر الوصول إليه للقليل من الناس في مجتمعنا: الفنانون يتيسر لهم ذلك، والحرفيون، والعلماء ومن شابههم فقط. وإذا كنت محظوظا بشكل يكفي لجعلك تحظى بهكذا فرصة، فإنك ستعرف أنها تجربة فريدة. وهذا لا يعني أنك تحتاج لاكتشاف نظرية آينشتاين النسبية لعيش هذه التجربة: أي شخص يمكنه أن يحظى بتلك البهجة، حتى بمشاهدة ما قام أناس آخرون بفعله. على سبيل المثال، حتى لو قرأت برهان نظرية رياضية بسيطة مثل نظرية فيثاغورث التي تدرسها في الصف العاشر، وقمت أخيرا بفهم ما تعنيه هذه النظرية، فإن ذلك سيكون مثيراً بالنسبة إليك؛ “ربّاه ! لم أفهم هذه النظرية من قبل”. حسناً، هذا أيضا إبداع، حتى لو قام شخص آخر ببرهنته قبل ألفي سنة. أنت تبقى بذلك مصعوقا ومدهوشا بما تقوم باكتشافه، وأنت فعلا تقوم بـ “اكتشافه”، حتى لو قام شخص آخر بفعل ذلك قبلك. ثم بعد ذلك لو حصل وتمكّنت من أن تضيف شيئا جديداً على ما هو معروف حالياً، فهذا مثير حقّاً. أنا أعتقد أن الشئ نفسه ينطبق على الشخص الذي يبني قارباً: لا أرى أي فروق جوهرية بين الأمرين. أعني أنني أنا شخصيا أتمنى أن أتمكن من فعل ذلك لكنني لا أستطيع؛ لا أستطيع تخيّل ذلك.
أنا أعتقد أنّ الناس يجب أن يكونوا قادرين على العيش في مجتمع يمكنهم فيه أن يطبقّوا هكذا نوع من الدوافع الداخلية، وأن يطوّروا قابلياتهم بحريّة، بدلاً من أن يتم إجبارهم على عدد محدود من الخيارات المتوفّرة للناس حول العالم حاليّاً. ولا أعني بذلك الخيارات المتوفرة موضوعيّاً للناس فقط، بل حتى المتوفّر ذاتيَاً منها، مثل الطريقة والكيفية التي يسمح للناس بأن يفكروا خلالها؛ تذكّر أنّه توجد هنالك مختلف طرق التفكير التي يتم حجبها عنّا في مجتمعنا، ليس لأنّنا عاجزون عنها، بل لأن هنالك حواجز عديدة تم تطويرها وفرضها من أجل منع الناس من التفكير بهذه الطرق. وفي الحقيقة، هذا هو الهدف من التلقين في المقام الأول. ولا أعني هنا أن يقوم شخص بإعطائك محاضرات بشكل مباشر: عن طريق المسلسلات الكوميدية على التلفاز مثلا، أو برامج الرياضة التي تشاهدها. كل جانب من جوانب الثقافة ينطوي ضمنيّا على تعبير عن ماهيّة الحياة “المناسبة” ونظام القيم “المناسب”، وهذا كلّه تلقين.
لذا أعتقد أن ما يجب أن يحصل هو أن يتم فتح الخيارات الأخرى أمام الناس، سواءً على صعيد ذاتي أو حتى واقعي ملموس، أي أن الناس يجب أن يمكنهم القيام بشئ حول هذه الرغبات من دون المرور بمعاناة هائلة. وهذه هي إحدى أهم أهداف الاشتراكية حسب اعتقادي؛ أن نصل إلى مرحلة تتسنى فيها الفرصة للناس بأن يختاروا بحرية لأنفسهم ما هي “حاجاتهم”، وليس فقط أن يمتلكوا عدة “خيارات” مفروضة عليهم بواسطة أي نظام سلطوي اعتباطي. [2]

صناعة الرغبات
الرجل: لكن يمكننا القول أن “المبادلة والمقايضة” [3] هي طبيعة إنسانية؛ أي أنّ الناس ماديّون بشكل أساسي، وسيرغبون دائماً بمراكمة المزيد تحت أي نظام اجتماعي.
تشومسكي: يمكنك قول ذلك، لكن لا يوجد سبب لتصديقه. إذا نظرت إلى مجتمعات الفلّاحين فستجدها تستمر لآلاف السنين دون الحاجة إلى كل هذا؛ هل يمتلك هؤلاء طبيعة بشرية مختلفة؟ أو انظر إلى نظام الأسرة، هل يتم استخدام نظام “البدل والمقايضة” لتحديد الكمية التي ستتناولها على وجبة العشاء؟. الأسرة نظام اجتماعي طبيعي حتماً، لكنك لا تجد الناس فيه يراكمون المزيد والمزيد لأنفسهم دون وضع أي اعتبار لاحتياجات الآخرين.
في الواقع، ألقِ نظرة على تاريخ “البدل والمقايضة” هذا نفسه: انظر إلى تاريخ الرأسمالية الحديثة التي نعرف عنها الكثير. أول شئ ستلاحظه هو أنّ هؤلاء الفلّاحين كان يجب أن يتم دفعهم وإجبارهم على نظام العمل مقابل الأجر [4]، والذي لم يكونوا يريدونه، باستخدام القوة والعنف؛ ثم بعد ذلك حصلت جهود كبيرة وحثيثة، وبشكل واع، من أجل صناعة “الرغبات”. في الحقيقة، إذا نظرت في ذلك التاريخ ستجد أدبيات كاملة ومثيرة للاهتمام من النقاش الواعي والمقصود حول الحاجة إلى خلق “الرغبات” في عامة الناس. كل ذلك حصل على مدى المسار الطويل للرأسمالية بالطبع، لكن أحد الأمكنة التي يمكنك أن تشاهد هذا بشكل مختزل وواضح هي الفترة التي تم إنهاء نظام العبودية حواليها. مشاهدة حالات مثل هذه أمر دراميّ فعلاً.
على سبيل المثال، في عام 1831 كان هناك ثورة كبيرة للعبيد في جامايكا—والتي كانت أحد الأسباب التي أدت إلى تخلي البريطانيين عن نظام العبودية في مستعمراتهم: بعد عدة تمرّدات من قبل العبيد، قال البريطانيون ببساطة: “لم يعد كل هذا مجزياً مادياً”. لذلك في غضون عدة سنوات صار البريطانيون يريدون الانتقال من الاقتصاد القائم على العبودية إلى ما يسمى بالاقتصاد “الحر”، لكنهم لم يزالوا يريدون الإبقاء على التركيبة ذاتها. إذا نظرت إلى النقاشات البرلمانية في إنجلترا حينها، فستجد أنهم كانوا يتحدّثون بإدراك حول كل هذا. لقد كانوا يقولون: انظر، ينبغي علينا أن نبقي كل شئ على ما هو عليه، الأسياد يجب أن يصبحوا “الملّاك”، والعبيد يجب أن يصبحوا “العمّال السعداء”، بطريقة ما يجب أن نبلُغ هذا.
لكن لقد كانت هنالك مشكلة صغيرة في جامايكا: مساحات الأراضي المفتوحة كانت كثيرة ووافرة، وعندما ترك البريطانيون العبيد وشأنهم، كان كل ما يريده هؤلاء هو أن ينتقلوا إلى تلك الأراضي ويعيشوا بسعادة هناك؛ لم يكونوا يريدون مواصلة العمل في مزارع السكّر التابعة للبريطان بعد الآن. لذلك كان السؤال الذي يسأله الجميع بالبرلمان في لندن: “كيف نجبر هؤلاء على مواصلة العمل لأجلنا، حتى لو كنا لم نعد نستعبدهم ونجبرهم على ذلك؟”. حسناً، تم الاتفاق على أمرين آنذاك: الأول هو أنهم سيستعملون سلطة الدولة لإغلاق الأراضي المفتوحة، من أجل منع الناس من الذهاب إلى هناك ومواصلة البقاء على قيد الحياة اعتمادا على أنفسهم. والأمر الثاني هو أنهم استوعبوا أنّ كل هؤلاء العمّال لم يكونوا “يرغبون” في الكثير من الأشياء؛ رغباتهم فقط كانت مقتصرة على تلبية احتياجاتهم الطبيعية العادية، والتي كان بإمكانهم تلبيتها بسهولة في ذلك الجو الاستوائي. لذلك احتاج الرأسماليون البريطان إلى البدء في صناعة مجموعة كاملة من “الرغبات” لأجلهم، وقاموا بجعلهم يبدؤون بالرغبة في أشياء لم يكونوا يرغبون فيها من قبل، وستكون الطريقة الوحيدة لتلبية هذه الرغبات المادية الجديدة هو العمل مقابل الأجر في مزارع السكّر البريطانية.
لقد كانت صناعة الرغبات تناقش بإدراك ووعي، وفي الحقيقة حصلت جهود واسعة وكبيرة من أجل القيام بنفص الأمور التي يقومون بها على التلفاز اليوم: العمل على صناعة الرغبات، وجعلك ترغب في أحدث زوج من الأحذية في السوق بالرغم من أنك لا تحتاجه فعلاً، وبذلك سيمكنهم دفع الناس إلى مجتمع العمل مقابل الأجر. هذا النموذج تم تكراره مرة بعد أخرى خلال تاريخ الرأسمالية كله. تاريخ الرأسمالية كاملا يُظهر وفق الحقائق أنّ الناس كان يجب أن يدفعوا نحو أوضاع معينة، ثم تم الادعاء لاحقا بأنّها موافقة لطبيعتهم البشرية. فإذا كان تاريخ الرأسمالية يظهر شيئأ، فهو أن كل هذا ليس من طبيعة البشر، وأنّه كان يلزم أن يدفعوا إلى ذلك النظام دفعا، وأنّ تلك الجهود لدفعهم كان من اللازم استمرارها والابقاء عليها حتى يومنا هذا.
————————
إلى هنا ينتهي حديث تشومسكي في هذا الكتاب الرائع الذي يقع في 400 صفحة—والذي يعرض أفكار وتحليلات هذا المفكر الموسوعي في قضايا مهمة ومختلفة، من قبيل السياسة الخارجية لأقوى دولة في العالم (أمريكا) وطرق هيمنتها على دول العالم وتحقيق مصالحها الاستعمارية، وتأملاته حول نشاط التجمعات السياسية في بلده وطرق تأثيرها على القرار الحكومي، وصولا إلى نظرته حول قضايا التركيبة الاجتماعية والاقتصادية وغيرها من المواضيع المهمة والمفيدة. ملحقات هذا الكتاب تقع في 400 صفحة أخرى قام فيها محرّرا الكتاب بمجهود ضخم في تتّبع المصادر التي بنى عليها تشومسكي حديثه واستقى منها معلوماته، وهي مفيدة بحق ومثرية لمن يريد تتبّع هذه المواضيع والتعمّق فيها بشكل أكبر. فيما يلي ترجمة للملحقات والمقتطفات المتعلقة باللقاء المترجم أعلاه:
عن نقاشات الرأسماليين البريطان حول الحاجة إلى “خلق الرغبات” في جامايكا بعد انهاء العبودية في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، انظر على سبيل المثال كتاب توماس هولت المعنون: “مشكلة الحرية في جامايكا: العرق، العمالة، والسياسة في جامايكا وبريطانيا” [5]خاصة الصفحات 44-73. هذه الدراسة تذكر كلمة لعضو البرلمان البريطاني Rigby Watson فترة التحضير لإنهاء العبودية، بتاريخ 10 يونيو 1833:
“علينا أن نجعلهم يعملون، ونجعلهم يتذوقون بعض الرفاهية واللذائذ. كما يجب أن يتم تعليمهم تدريجيا بأن يرغبوا في هذه الأمور التي يمكنهم الوصول إليها من خلال الكدح الإنساني. لقد كان هنالك “تقدّم” دائم من حالة امتلاك الضروريات إلى حالة الرغبة بالكماليات؛ ما كان يوماً ما كمالية أصبح تدريجيا ضرورة عند الناس على اختلاف طبقاتهم وأوضاعهم. هذا هو نوع التقدّم الذي كان يجب أن يمرّ به الزنوج، وهذا هو نوع التعليم الذي كان ينبغي أن يتم إخضاعهم إليه فترة التأهيل بعد إعطائهم حريتهم.”
وعلى نفس المنوال يقول John Daughtrey في ص71 :
“كل خطوة نتخذها في هذا الاتجاه هي تطوّر حقيقي؛ الرغبات المصطنعة تصبح مع مرور الوقت حقيقية. خلق هكذا عادات يوفّر أفضل حماية للعمالة الزنجية بعد انتهاء مدة تدريبهم على المهن. [6]”
القادة البريطان تطرقوا في خطاباتهم أيضا إلى مشكلة الأراضي الخصبة، والتي ستكون مفتوحة أمام العبيد الذين تم تحريرهم مؤخرا آنذاك (ص73):
“في بدايات سنة 1836 قام وزير الاستعمار، اللورد غلينلغ Lord Glenelg، بإرسال رسالة إلى جميع حكام غرب الانديز، وقام فيها بالتطرق إلى أحد مشاكل السياسات العامة هذه. ابتدأ رسالته بالقول أنه خلال فترة العبودية كان يمكن اجبار العمالة على العمل حيثما يشاء المالك. لكن الآن، مع نهاية “فترة التدريب”، فإن العامل لن يعمل إلا في تلك المهام التي يتوسّم فيها منفعته الشخصية. لذلك إذا كنا نريد استمرار زراعة السكّر والقهوة، فإننا يجب أن نجعل “المصلحة الملحّة والواضحة” للسكان الزنوج في العمل بتلك الأماكن وتنميتها. لقد كان مدركاً لقدرتهم على القيام بذلك، وكان يكرّر في غضون كلامه المبدأ الذي صار مألوفا آنذاك، والقائل بأنّه: بناءً على النماذج الديموغرافية لمستعمرات العبيد السابقة مثل جامايكا، “حيث توجد هنالك أراض كافية لتحصيل مؤونة وافرة تكفي كل السكان، مقابل عمل بسيط”، فإن السود لن يقبلوا بالعمل تحت هذه الأوضاع … “إذا تركت الأمور على حالها الطبيعي فلن يتم جذب العمالة نحو زراعة منتوج كاف من أجل التصدير”. أكمل غلينغ وأخذ يصف الخطط والطرق التي يمكن من خلالها للحكومة أن تمنع بقوة القانون هذه النزعات الطبيعية. فكان من اللازم أن يتم الحؤول دون حصول العبيد السابقين على الأراضي.”

لأمثلة أخرى حول نقاشات الرأسماليين حول الحاجة إلى “خلق الرغبات” بشكل مقصود، انظر كتاب أڤيـڤا تشومسكي: عمال غرب الانديز وشركة الفواكه المتحدة في كوستاريكا [7]، ص 56-59:
“الشركة ادّعت في البروباغاندا الخاصة بها أنّ دورها كان يكمن في غرس القيم الاستهلاكية بين عمّالها … في 1929، قام كروثر، أحد كتاب السير الخاصين بالشركة، بشرح أهمية نشر العقلية الاستهلاكية بشكل صريح. حيث قام بتلميع فضائل الرأسمالية، وأخذ يتحسّر على الآثار “غير الأخلاقية” التي يخلّفها الاقتصاد القائم على توفير القوت الكافي فقط: “الخدم والعمال ]في أمريكا الوسطى[ كانوا يعملون متى ما أجبروا على ذلك، وبشكل غير مستمر، لأن الأراضي كانت توفر لهم المتطلبات اليسيرة التي يحتاجونها.” ثم أخذ يواصل شرحه: لكن هذا يمكن تغييره عبر غرس الرغبة بالترقي في الهرم الطبقي [8] فيهم. “يمكن القول بأن الرغبة في الممتلكات والبضائع هو أمر يجب استغلاله واستثماره. في الولايات المتحدة تم استثمار هذه الرغبة بالفعل” … الأفلام الأمريكية، الراديو، والمجلّات بشكل خاص كانت منتشرة في كل مكان، و “إعلامنا الدعائي أخذ يمتلك، شيئا فشيئا، نفس التأثير الذي يملكه في الولايات المتحدة، وأخذ يصل حتى إلى الخدم ]في غرب الانديز[. فعندما يتم رمي دوريّة، يتم التقاطها من الأرض، وتتحول صفحاتها الدعائية إلى لوحات حائط في أكواخ القش. لقد شاهدت دواخل أكواخ مغطاة بالكامل بصفحات المجلات الأمريكية … كل هذا يؤثر بدوره في إيقاظ الرغبات.”

كذلك انظر كتاب هانز شمت “احتلال الولايات المتحدة لهايتي” [9]، فيما يلي اقتباس من ص158:
“المشكلة أن إدخال مفاهيم الفعالية والبراغماتية الأمريكية كان ينطوي على مواجهة مع قيم الشعب الهايتي البسيطة وطموحاتهم فيما يتعلق بالعمل والمردود المادي … المستشار الاقتصادي Arthur C.Millspaugh صرّح بالتالي: “الفلّاحون الذين يعيشون حياة تبدو لنا كسولة وعديمة التدبير، هم، وبشكل يدعو للحسد، يعيشون حياة قانعة وخالية من الهم؛ لكن إذا كانوا يريدون أن يصبحوا مواطنين لدولة مستقلة تحكم نفسها، فإنهم يجب أن يحوزوا مجموعة جديدة من الرغبات، أو أن يحوزها جزء كبير منهم على أقل تقدير.”

انظر أيضا كتاب أنجي ديبو And Still The Waters Run [10] (دراسة كلاسيكية تناقش جهود الحكومة الأمريكية لـ “نشر الوعي” حول رغباتها بين السكان الأصليين خلال برنامج إلحاق الأراضي و”المحو الهندي” الذي قامت به). فيما يلي مقتطفات من ص21-23 :
“السيناتور Henry L. Dawes من ولاية ماساتشوستس، أحد المنظّرين البارزين حول شؤون الهنود الحمر، وصف زيارة تفقدية قام بها مؤخرا إلى الأراضي الهندية بشكل إيجابي ]عام 1883[. أشد المؤيدين لقضية الهنود بالكاد يمكنه أن ينقل صورة مثالية عن سعادة شعبه ورفاههم وثقافتهم بمثل الطريقة التي نقلها السيناتور. لكنّه، وبشكل مخالف للمنطق، أخذ بعد ذلك يدافع عن الدعوة للتغيير في هذا المجتمع المثالي، لأنه يمتلك مبادئ خاطئة حول حيازة الممتلكات. يقول السيناتور، متحدثا على ما يبدو حول قبائل الشيروكي: “الزعيم قال لنا بأنه لا يوجد عائلة في الشعب كلّه لا تمتلك منزلا خاصا بها. لم يكن هناك شخص عائل في هذا الشعب، ولم يكن الشعب مديناً لأي أحد بدولار واحد. لقد قاموا ببناء مبنى برلمان خاص بهم، والذي انعقد فيه هذا الكشف، كما قاموا ببناء مدارسهم ومستشفياتهم الخاصة. لكن اختلال النظام كان واضحا. لقد وصلوا إلى أقصى حد يمكنهم الوصول إليه، لأنهم يمتلكون أراضيهم بشكل مشاع. هذا نظام هنري جورج ]]مصلح الأراضي الأمريكي في القرن التاسع العاشر[، وتحت هذا النظام لا توجد مشاريع لجعل بيتك أفضل من بيوت جيرانك. لا توجد هنا دوافع أنانية، والتي كانت هي بدورها السبب وراء الحضارة. حتى يوافق هؤلاء الناس على التخلي عن أراضيهم، ويقسموها بين مواطنيهم كي يمتلك كل واحد منهم الأرض التي يرعاها شخصيا، فإنهم لن يتقدموا على الإطلاق.”

المؤتمر ]حول منظمة “أصدقاء الهنود” الشرقية الخيرية[ قبٍل وجهة النظر هذه، وأخذ يدعو إلى “الإصلاح” بكل ما في الحملات الصليبية الأخلاقية من جدّية. ومثل السيناتور داوز، قام الأعضاء ببناء معارضتهم بشكل صرف بناءً على الاعتقاد النظري بقداسة قوانين الملكية الخاصة، بدلا عن أي فهم لطبيعة الهنود الخاصة أو أي تحقيق حول أوضاع واقعهم الفعلية. وفيما يخص الهنود بشكل عام، تضمّن برنامجهم عام 1903 … تقسيم الممتلكات المشاعة بين الأفراد الهنود، ووضعهم تحت نفس الظروف الضريبية وحرية التخلي عن الملكية المطبّقة في مزارع الإنسان الأبيض … واستجابة لهذا الإيمان بالملكية الخاصة، قام الكونغرس بتمرير قانون داوز سنة 1887 [11]. وقرر هذا القانون أن تقسّم الأراضي العامة، ويعطى أصحاب العوائل 160 فدانا من الأراضي، والعزاب البالغين 60 فدانا، و40 فدانا للأطفال؛ والبقية يتم اشتراؤها من قبل الحكومة وتصبح مفتوحة للامتلاك وفق قانون ملكية الأراضي الأمريكية [12].
كذلك انظر كتاب ريتشارد أومان “بيع الثقافة المضللة للناس: المجلات، الأسواق، والطبقية على مشارف نهاية القرن” [13] حول الحاجة المتزايدة إلى خلق الدعاية للمنتجات التجارية فترة نهاية القرن.

[1] اللقاءات مترجمة من كتاب Understanding power: the indispensable Chomsky تحت عنواني: Articulating Visions و Want Creation وملحقاتهما.

[2] الاعتباط (arbitrariness) المقصود هو كون الشئ غير مبني على أسس عقلائية صلبة، وهو نقيض العقلانية والتعقل (rationality).

[3] “to truck and barter” إشارة إلى تعبير المنظّر الاقتصادي السكوتلندي الشهير آدم سميث.

[4] Wage-labor system.

[5] Thomas Holt, The Problem of Freedom: Race, Labor, and Politics in Jamaica and Britain, 1832-1938, Baltimore: Johns Hopkins University Press, 1992, especially 44-73.

[6] بعد اصدار قانون عتق العبيد في المستعمرات البريطانية(emancipation act of 1833) كانت هنالك نظرة تذهب إلى أن العبيد يجب أن يمروا بفترة تدريب لأنهم لم يتعودوا على الحرية، ويجب تدريبهم كي يتمكنوا من العيش كأحرار، فكان ذلك تحت عنوان التدريب على المهن (apprenticeship).

[7] Aviva Chomsky, West Indian Workers and the United Fruit Company in Costa Rica, 1870-1940, Baton Rouge: Louisiana State University Press, 1996.

[8] Socioeconomic upward mobility.

[9] Hans Schmidt, The United States Occupation of Haiti, 1915-1934, New Brunswick, NJ: Rutgers University Press, 1971

[10] Angie Debo, And Still The Waters Run, New York: Gordian, 1966 (original 1940).

[11] Dawes Severalty Act of 1887.

[12] Homestead entry.

[13] Richard Ohmann, Selling Culture: Magazines, Markets, and Class at the Turn of the Century, London: Verso, 1996. See also chapter 10 of U.P. and its footnotes 74 to 80.

Laisser un commentaire

Your email address will not be published.

Article précédent

Cybercriminalité et contrôle des réseaux sociaux : Vers le durcissement du cadre juridique ?

Article suivant

Dessin. LeHic. Campagne électorale

Latest from Blog

« اليمين التكنلوجي »…كيف أصبح « وادي السيليكون » متطرفًا

« اليمين التكنلوجي »…كيف أصبح « وادي السيليكون » متطرفًا .تحليل موقع « ميديا بارت » الاستقصائي الفرنسي عبر صفحة الكاتب والصحافي خالد حسن: مدير تحرير صحيفة الأمة الإلكترونية إيلون موسك وبيتر ثيل، على رأسهم، يجمع اليمين التكنولوجي

BENHALIMA M. AZZOUZ, TORTURÉ EN DÉTENTION

ANCIEN OFFICIER MILITAIRE ALGÉRIEN, BENHALIMA M. AZZOUZ, TORTURÉ EN DÉTENTION, ALKARAMA APPEL URGENT AU RAPPORTEUR SPÉCIAL DE L’ONU SUR LA TORTURE Source : https://www.alkarama.org/en/articles/former-algerian-military-officer-benhalima-m-azzouz-tortured-detention-alkarama-urgently Le 12 mars 2024, Alkarama s’est adressée en
Aller àTop