novembre 29, 2021
18 mins read

أخيرا ثورة التحرير بوجه إنساني بقلم ناصر جابي

القدس العربي 28-112021

الإنجاز الأكبر لمذكرات المجاهد عبدالله بن طبال (1923-2010) التي أصدرها المؤرخ الجزائري دحو جربال في الجزائر عن دار الشهاب، بعد طول انتظار، دام لأكثر من ثلاثين سنة، هو إضفاء طابع إنساني على ثورة التحرير، رجالها وأحداثها، كان الغائب الأكبر في الصورة التي نُقلت للأجيال الصغيرة من الجزائريين، من الذين لم يشاركوا في هذه الثورة بعد الاستقلال، صورة منحت ملامح غير إنسانية لمجاهد مثالي وأحداث خارقة، أعادتها مذكرات قائد الولاية الثانية عبد الله بن طبال إلى أبعادها البشرية، من دون أن تفقد شيئا من صدقها.

فقد تكلم بن طبال عن مجاهدين كان على رأسهم لمدة سنين، من فلاحين فقراء في أغلبيتهم كما يذكر، في انتظار الإعلان عن اندلاع الثورة، ليفاجأ بغيابهم في الساعة الصفر لأنهم خافوا وبقوا في منازلهم بين أهلهم بدل التوجه إلى الهجوم على المواقع العسكرية الفرنسية المتفق عليها منذ أيام، مثل مجاهدين آخرين شاركوا في الأيام الأولى للثورة ليغادروا مواقعهم في الجبل بعد ذلك، لأنهم فهموا أن ثورة التحرير هي سلسلة معارك عسكرية مستمرة، تدوم لأيام ثم يعود الكل إلى بيته بعد القضاء على الاستعمار الفرنسي.
وغيرها من الشهادات التي تبين بشكل واضح مستويات استيعاب وفهم لحدث الثورة، غير متفق حوله حتى بين الرعيل الأول من الثوار، رعيل أول من مفجري الثورة كان عددهم قليلا، بل قليلا جدا لم يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، كما كان الحال في بعض مناطق الولاية الثانية -عنابة على سبيل المثال – عكس الصورة التي روجت لها السردية الوطنية، وهي تتكلم عن هبة شعبية كبيرة في ليلة أول نوفمبر، منحت مكانة خاصة لهذا الجيل الذي عقّد الأجيال الأصغر، لم يترك لها ما تُنجز بعد أن حرر البلد وبناها وحكمها لعقود.

عمق إنساني يذكرنا به بن طبال لا يقتصر على الجنود والمناضلين البسطاء، بل القيادات الكبيرة على شاكلة قائد الولاية زيغوت يوسف، قُبيل استشهاده وهو يصر- رغم الخطورة التي تأكدت باستشهاده -على زيارة أهله وعائلته بعد العودة من مؤتمر الصومام، قبل ذهابه إلى منطقة الأوراس كمبعوث للقيادة للتقصي حول الأحداث التي عرفتها الولاية الأولى. حوادث كثيرة يحكي عنها بن طبال في مذكراته وهو يقول، إنه كان متأكدا، أن هذا المجاهد الذي عاد إلى بيته بعد أيام قضاها في الجبل، عند إعلان الثورة سيعود إلى مواقعه – وهو ما حصل فعلا – بعد أن يفهم أن الثورة عمل طويل المدى، وليس سلسلة معارك عسكرية، يتم القضاء فيها على الجيش الفرنسي، وأن الأمر يتعلق في النهاية بفهم قاصر لدى المناضلين لمفهوم الثورة، وأن العيب في قيادة المجاهدين، التي لم تستطع القيام بدورها في شرح وتبيان ما يميز ثورة التحرير كعملية سياسية معقدة وليس عسكرية، لم تكن موازين القوى العسكرية فيها لصالح الثورة لغاية حسمها بالاستقلال.

شهادات تبين بشكل واضح مستويات استيعاب وفهم لحدث الثورة في الجزائر، غير متفق حوله حتى بين الرعيل الأول من الثوار

مذكرات نجحت في منح القارئ الكثير من المعطيات ذات الطابع السوسيولوجي والأنثروبولوجي حول عالم الريف والمدينة في الجزائر، بدءا من ثلاثينيات القرن الماضي، اعتمادا على حالة الشرق الجزائري بعائلاته وقواه الاجتماعية والسياسية المتنوعة، وهي تعيش حالة تمايز اجتماعي واقتصادي حاد، تكلم عنها بالتفصيل قائد الولاية الثانية عبد الله بن طبال، عن فقرائها الذين زاد عددهم، واغنيائها القدماء والجدد الذين استغلوا قربهم من الإدارة الفرنسية حتى وهم يساهمون – تحت الإكراه في الغالب ـ في تمويل الثورة. كما تكلم عن القوى السياسية الحاضرة على غرار مناضلي جمعية العلماء وأحزاب فرحات عباس والمركزيين، الذين كان قاسيا معهم في الكثير من الشهادات، ما جعله يتحفظ كثيرا على قرار الاستعانة بهم في مؤسسات الثورة، الذي قرره مؤتمر الصومام عام 1956، ورفضهم تماما على مستوى القيادة، في الوقت نفسه الذي نسبت فيه هذه المذكرات كثيرا من المفاهيم إلى السلوكات التي تحيل إليها، على غرار الخيانة والشرف والاستقامة، وغيرها من المفاهيم التي صورتها الفكرة الوطنية بعد الاستقلال كمفاهيم مطلقة، فقد تحدثت المذكرات عن ذلك القائد الذي يتوجه عنده المجاهدون للأكل والنوم في أمان تام، لأن الجيش الفرنسي يعتقد أنه متعاون معهم وفي صفهم، لدرجة أن بن طبال نفسه كان يبعث بزوجته وأخواته إلى منزل هذا القائد، علما بأن بن طبال ومن جاء بعد على رأس الولاية الثانية لم يكن بعيدا عن زوجته طول محطة الثورة، كدليل على قوة تنظيم الثورة في هذه الولاية، عكس ما كان سائدا في ولايات أخرى، على غرار الولاية الأولى التي عرفت حالة اضطراب سياسي وأمني كبيرين، نتيجة تركيبتها السوسيولوجية التي تكلمت عنها المذكرات بشكل دقيق، نتيجة المعرفة الدقيقة لابن طبال بهذه الولاية، التي قضى فيها سنوات قبل اندلاع الثورة، بعد تخلي الحزب عنه مع مجموعة من الثوار التابعين للمنظمة الخاصة التي فككتها الشرطة الفرنسية -1950.

بن طبال الذي يذكر في مذكراته كيف تعامل جيش التحرير مع الفرنسيين المدنيين وسجناء جنود الاحتلال، وكيف كانت تصر قيادة الولاية الثانية على عدم التعرض إلى المعمرين، الذين لم يحملوا سلاحا في وجه الشعب، ورفض الانتقام منهم أو قتلهم، رغم الجرائم التي ارتكبها جيش الاحتلال، ضد المدنيين الجزائريين، من دون أن ينفي حالات الإعدام التي أقدمت عليها الثورة في حق بعض الجزائريين الذين أصروا على مواقفهم، رغم التحذيرات، ما جعل مؤتمر الصومام يصر على نزع صلاحية تنفيذ أحكام من قيادات الولايات وحصرها في المؤسسات الوطنية للثورة، بعد حادثة إعدام شيهاني بشير قائد الولاية الأولى وعلاوة عباس بقسنطينة.

بن طبال الذي منح قارئ المذكرات الكثير من المعطيات والأحكام الشخصية، وهو يتكلم عن بعض خصائص الشخصية لدى قيادات الثورة التي تعامل معها، من أمثال العربي بن مهيدي وديدوش مراد ومحمد بوضياف وعبان رمضان، الذي حافظ على مواقفه الإيجابية منهم، رغم تفضيله الواضح لقائد ولايته الأول ديدوش مراد، ابن العاصمة الذي قدم عنه صورة في غاية الإيجابية على مختلف الأصعدة السياسية والإنسانية، تماما كما كان الحال مع زيغوت يوسف، ابن السمندو، زعامات عاش مع بعضها في أكثر من ولاية، وحضر معها اجتماعات مصيرية كما كان الحال مع مجموعة 22 المفجرة للثورة ومؤتمر الصومام، شاهد فيه عبان يدخن قبل أن ترفع الثورة الحظر على التدخين! واحتدم فيه النقاش مع بن المهيدي واكتشف فيه المستوى السياسي الحقيقي لبوضياف واختلاف التسيير المالي بين الولايات كما هو كان سائدا في الولاية الثالثة التي كان يحصل قادتها على أجور مهولة، بررها كريم بلقاسم بأنه حصل عليها ببندقيته ولم يمنحها له الشعب.

ناصر جابي
كاتب جزائري

Laisser un commentaire

Your email address will not be published.

Article précédent

Dessin Le Hic – 27 novembre 2021

Article suivant

Tunisie : l’ancien président Moncef Marzouki condamné à 4 ans de prison

Latest from Blog

« اليمين التكنلوجي »…كيف أصبح « وادي السيليكون » متطرفًا

« اليمين التكنلوجي »…كيف أصبح « وادي السيليكون » متطرفًا .تحليل موقع « ميديا بارت » الاستقصائي الفرنسي عبر صفحة الكاتب والصحافي خالد حسن: مدير تحرير صحيفة الأمة الإلكترونية إيلون موسك وبيتر ثيل، على رأسهم، يجمع اليمين التكنولوجي

BENHALIMA M. AZZOUZ, TORTURÉ EN DÉTENTION

ANCIEN OFFICIER MILITAIRE ALGÉRIEN, BENHALIMA M. AZZOUZ, TORTURÉ EN DÉTENTION, ALKARAMA APPEL URGENT AU RAPPORTEUR SPÉCIAL DE L’ONU SUR LA TORTURE Source : https://www.alkarama.org/en/articles/former-algerian-military-officer-benhalima-m-azzouz-tortured-detention-alkarama-urgently Le 12 mars 2024, Alkarama s’est adressée en
Aller àTop