septembre 24, 2019
21 mins read

فضيل بومالة، رجل ولدته الأيام والمواقف

24/09/2019 Mohamed Chellouche casbah-tribune.com

تألمت كثيرا لخبر إيداع الزميل الصديق فضيل بومالة الحبس المؤقت بعد توقيفه. ليس من حقي الاعتراض على مجرى العدالة أو التشكيك في نزاهة عملها ولكن من حقي بل من واجبي أن أسجل للتاريخ شهادتي على هذا الرجل الذي عرفته عن قرب وعرفت في شخصه التميُّز والاستثناء على أكثر من صعيد، فهو التميُّز في درجة التحصيل العلمي والمعرفي ذي البعد التنويري وهو التميُّز في الرؤية الإعلامية والسياسية للأحداث وهو الاستثناء في الشجاعة والاستماتة في التعبير بشراسة عن مواقفه من أجل الحرية وحقوق الإنسان ودولة القانون.

تمنّيت لو أن اليد التي امتدت إلى رموز الفساد والمفسدين لتضربها بقوة وتضرب كل أذرعها وفروعها، اتخذت من صوت المناضل فضيل بومالة، عونا لها في معركة اجتثاث رؤوس عصابة الفساد وأذنابها، فقد كان هذا المناضل المثقف الموسوعي في طليعة الأصوات القليلة التي تعالت لتندد بالانحراف القاتل الذي مارسه نظام بوتفليقة.

لقد كان فضيل بومالة يمارس نضاله المستميت نهارا جهارا، على أرض وطنه وبين أبناء شعبه، لم يكن يوما مختبئا في الخارج داخل صالونات مغلقة أو في غرف مهيأة للتحريض والدعاية والتضليل، مثلما يفعل آخرون، بل كان دوما يعبر عن مواقفه في العلن وفي مختلف منابر التعبير في بلده الجزائر.

ليست لدي المعطيات التي هي بيد العدالة ولكن لدي القناعة الراسخة بأن الزميل فضيل بومالة الذي أعرفه حق المعرفة ليس من نوع الإنسان الذي يتآمر على بلده أو ينساق وراء أية دعاية مغرضة ضد وطنه، بل إن مساره النضالي كان كله كفاحا من أجل جزائر حديثة تُبنى على أساس دولة القانون وتكريس الحريات وحماية حقوق الإنسان، جزائر تتحرر فيها المبادرات ويسود فيها تكافؤ الفرص ويُراعى فيها مبدأ الامتياز في الأداء وفي شتى صنوف الابتكار والإبداع. لقد آثر السعي إلى خدمة بلده ومستقبل بلده وسمعة بلده على أن يخدم نفسه ومستقبله ورمزية شخصه، كان بإمكانه أن يتبوأ المناصب التي يريد بلوغها لو سلك طريقا آخر غير طريق النضال من أجل تكريس مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية التعبير، لقد عرضت عليه رئاسة الجمهورية منصب وزير الاتصال في السنوات الأولى من حكم   » الرئيس الملك «  ولكن إصراره على فرض شروطه وعدم الاكتفاء بدور وزير الواجهة أجهض محاولة استمالته.

أحتفظ للزميل والصديق فضيل بومالة ذلك الوهج العلمي والمعرفي والإعلامي الذي ساقه إلينا نحن أبناء الإذاعة الجزائرية في السنوات الأولى من التسعينبات وحينها حمل في حقيبته مشروع إذاعة ثقافية بمواصفات الإذاعات العالمية في هذا التخصص، اجتهد في هذا المشروع بطموح كبير معتمدا على أجندة علاقاته الواسعة مع العلماء والمفكرين والباحثين والأدباء والمثقفين في مختلف أنحاء العالم، اشتغل باحترافية عالية وحرص على أن يجمع رصيدا هائلا من المادة المسجلة في شكل حوارات ولقاءات ونقاشات قاربت 100 تسجيل مع أسماء بارزة ومرموقة من عالم الفكر والمعرفة والأدب والفن والثقافة، قبل انطلاق البث على أمواج هذه الإذاعة الموضوعاتية حتى يُوفّر لها الرصيد الإنتاجي الذي يضمن لها استمرارية البث بأريحية وبالنوعية المرجوة، كان الرجل في مستوى هذا التحدي الحضاري وكان على وشك إنجاز صرح إعلامي غير مسبوق بمحتوى فكري وثقافي راقي لولا أنه فوجئ في نهاية المطاف بالمديرية العامة وكان على رأسها آنذاك، للمفارقة، رجل من قطاع الثقافة والفن هو السيد لمين بشيشي، تُعْلمه بانتهاء مهمته لأنها مُجْبرة على تعيين مدير من العمال الدائمين للإذاعة وهو لم تكن له هذه الصفة. ولأن الرجل كان متقدما في الرؤية العلمية والبصيرة المعرفية، كان متهيئا لمثل هذا القرار الإداري البعيد عن المهنية فردَّ على مُحدّثيه بما لم يكونوا يتوقّعونه، مَفادُ الرد :  » كُلُّ ما أُنجز من مادة إذاعية مُسجلٌ في مؤسسة سويسرية لحماية الملكية الفكرية، يتعيّن عليكم العودة إلى نقطة الصفر ولن أسمح لكم باستعمال هذه المادة « . وهكذا وجدت المديرية العامة نفسها في ورطة حقيقية وكان عليها أن تُرْجِئَ موعد افتتاح القناة إلى وقت لاحق ووجد المذيع محمد عميري نفسه يُعيّن على رأس الإذاعة الثقافية الناشئة بدون رصيد إنتاجي.

عاش فضيل هذا الفصل القاتم من تلك التجربة الإعلامية الفريدة من نوعها في ذلك الوقت، بمرارة كبيرة لأنه كان متحمسا لتأسيس إذاعة ثقافية متخصصة في الشأن الثقافي يضاهي بها كبريات الإذاعات الثقافية في العالم، غير أن هذه الغصّة التي ظلّت عالقةً في حلْقه لم تقْطع عليه طريق العودة إلى الإذاعة الجزائرية بمشروعٍ آخر كانت له إنارةٌ ثقافية وعلمية بالغة الإشراق وكان لي حينَها شرفُ المساهمة في تنفيذه بحكم المنصب الذي كنت أشغله آنذاك وهو مدير الاتصال والعلاقات العامة رفقة الزميل توفيق دومة بوطيبة الذي كان مسؤول المركز الثقافي » نادي عيسى مسعودي » بمقر الإذاعة.

تمثل هذا المشروع الإعلامي الثقافي الرائع في تنظيم ندوة أسبوعية (كل يوم خميس) متعددة المحاور تحت عنوان  » لكل قارئ كتاب «  تجمع في كل عدد ثلاثة أو أربعة أسماء بارزة من عالم الفكر والأدب والتاريخ، كل واحد منهم في محور تخصصه، يُستجوبون تباعا من طرف الأستاذ بومالة بأسلوبه المتميز وهو البارع في النقاشات الفكرية والأدبية، حول محتوى مُؤلَّفٍ جديد أو مسألة فكرية ما أو اكتشافٍ علمي جديد أو قضية ثقافية تستأثر باهتمام الساعة، ثم يُفتح مجال النقاش أمام الحضور الذي يتشكّل في أغلبيته من الصحافيين المُتابعين للشأن الثقافي وصفْوة من الأُدباء والمُؤرخين والباحثين ومن الطلبة الجامعيين.

كانت هذه الندوة التي  احتضن فعالياتها المركز الثقافي  » نادي عيسى مسعودي » التابع للإذاعة الجزائرية، خلال سنة 2007، تُشكّل بحق مُلتقىً للنقاش الفكري العميق وكان الأستاذ بومالة يَحرص على أن يدفع بالطرح والنقاش وتبادل الرأي إلى أقصى درجات الجرأة مُعرّيا الواقع العربي البائس الذي لا يُشجّعُ على الاستثمار في مجال البحث العلمي. وبالنسبة للإذاعة الجزائرية، كانت ندوة  » لكل قارئ كتاب  » بمثابة البنك المعرفي الذي يُزوّد البرامج الثقافية لمختلف قنوات الإذاعة الجزائرية، بالمادة الإعلامية النفيسة.

كان ذلك الموسم بالنسبة لنشاط  » نادي عيسى مسعودي »، استثنائيا بامتياز، بفضل هذا الإسهام الفكري والثقافي النيّر الذي أهداه الزميل فضيل بومالة للإذاعة الجزائرية دون أن يطلب منها أي مقابل، ولم تُعمّر هذه الإشراقة الإعلامية، للأسف، أكثر من موسم واحد. اختفى الزميل فضيل عن الأنظار بدون ضجيج، وعندما حاولت الضغط عليه لكي يستمر في هذه التجربة المتميزة أحال نظري إلى متاعب كان يعاني منها شريكُه الأساسي في تنظيم هذه التظاهرة الفكرية وهو نقابة اتحاد الناشرين، والواقع أن المتاعب كانت تستهدفه هو ولم يكن يُريد الإفصاح عنها في ذلك الوقت، لقد كان الرجل ضحية شهرته المتفجرة كرجل إعلام مقتدر وكمثقف موسوعي يهتم بمجالات البحث العلمي، اتضح لاحقا بأنه كان يتعرّض لمضايقات غريبة بل وملاحقات مُريبة من أطراف مجهولة وكان ذلك يتجسّد في إجراءات عملية منها توقيف برنامجه الشهير  » الجليس » في التلفزيون العمومي.

من المبادئ الأساسية في أدبيات وأخلاقيات مهنة الصحافة أن يمتنع الصحفي عن ارتداء جبّة القاضي ويُحاكي دوره أو يُعلّق على الأحكام التي يُصْدرها خاصة في هذا الظرف العصيب الذي تمر به البلاد ويقوم فيه قطاع العدالة بدور تاريخي في محاربة الفساد واجتثاث جذوره، غير أننا كإعلاميين نتألم لرؤية زميل كان من الأصوات النادرة التي كانت تصرخ من أجل التصدي للرؤؤس التي مارست هذا الفساد وشجعت على تعميمه وانتشاره في المجتمع،  يجاورها الآن في سجن الحراش  !!!

شتان بين من مارس الفساد ومن حاربه، شتان بين الثَّرَى والثُّريَّا.

Article précédent

ميثاق السيادة ضد السلطة كغنيمة حرب. الهواري عدي

Article suivant

Détenus du Hirak : Un rapport sera transmis au conseil des droits de l’Homme de l’ONU

Aller àTop

Don't Miss

« عبد الغني بادي. « إلى صديقي الصحفي المسجون خالد درارني

.من كفر بالنعمة !! من تطاول على الحرية !!! من

محاكمة بومالة في أجل أقصاه عشرون يوما

14 يناير 2020 elkhabar.com – مصطفى بسطامي تمت إحالة ملف الإعلامي